في بداية مرحلة التحوّل الديمقراطي، وهو أمر يثبت انزياح الفاعلين السياسيين والجمعاويين وغيرهم عن المطلوب والمتوقّع في مثل هذا السياق الذي تمرّ به تونس. فإذا نظرنا إلى خطابات بعض السياسيين وجدنا أنّ بنية الخطاب قد صارت قائمة، مرة أخرى، على «انتقاد النهضة» ومن ثمّة تحوّل هذا الموضوع إلى ورقة لجلب انتباه الناخبين وكأنّه قد عزّ على هؤلاء السياسيين انجاز برنامج والدفاع عنه ومحاولة اقناع الناخبين به . فهل أنّ أزمة ابتكار الحلول قد جعلت البعض يغترف من المخزون القديم؟
أمّا إذا تأمّلنا في طريقة إدارة الحوار حول ملفّ الحريات الفردية بان لنا أنّها اختزلت في المهر واللقب والمساواة في الإرث، فهل أنّ مواضيع كالحق في حرية اللباس، والحق في الإفطار في رمضان، والعلاقات الرضائية، والعزوبية الاختيارية، والتحوّل الديني، وغيرها لا تحتل نفس الأهمية ولا تتطلب حوارا مجتمعيا معمّقا في ضوء دستور 2014؟ وهل يعني الاختزال خضوع الحريات الفردية للتراتبية وفق سلّم الأولويات ؟ وهل للطرح السياسوي لملف الحريات الفردية أثر في هذا الاختزال؟
وبالرجوع إلى مختلف المواقف وردود الفعل التي غلب على بعضها الانفعال أو الانطباعية أو الدفاع أو الاستخفاف أو العنف... نتبيّن أنّ آلية التكفير قد عادت من جديد إن كان بخصوص يوسف الصديق أو عماد دبور أو غيرهما بل إن إعادة التوظيف والتأويل للنصوص القانونية باتت من «الخبز اليومي» وهي استراتيجية تروم إحياء الاستقطاب الحدّي من جديد. فهل أنّ استلهام حدث بثّ فيلم ‘برسبوليس’ في انتخابات 2011 صار أنموذجا؟ وهل أنّ عودة ألفاظ كحماية المقدسات ، والدفاع عن الإسلام ، والهوية العربية الإسلامية... صار الآلية الوحيدة للتموقع السياسي الاجتماعي والثقافي؟
إنّ إدارة الحوار حول ملف الحريات الفردية باستخفاف أو بسطحية أو بحثا عن الإثارة باستضافة عدد من الضيوف وإدراجهم في «عراك الديكة» سيؤدي إلى ما لاحظناه خلال هذه الأسابيع : شتم ولعن واتهام بالردة وبحث في الحياة الشخصية لعدد من المثقفين والمثقفات فضلا عن إعادة تداول صور هؤلاء ونعتهم بأبشع النعوت ، وهو أمر عايناه من قبل في التعامل مع ملفّ الإرهابيين. فهل يعسر على عدد من الإعلاميين اكتساب الثقافة المتينة للخوض في هذه المواضيع ؟ ونذهب إلى أنّ عدم أهلية بعض الإعلاميين على إدارة هذا الملف الشائك الذي يتطلب زادا معرفيا متنوعا يجمع بين القانوني والاجتماعي والانتربولوجي والسياسي والديني و... سيجعل أغلبهم ينحرفون عن المسار فينخرطون في حرب بالوكالة في سياق حرج تمر به البلاد.
ليست سيطرة العنف اللفظي والرمزي على الجدل ... وتعثّر الحوار الرصين والعميق حول سؤال الحريات إلاّ علامة على أنّ فهم الحريات الفردية ، والمواطنة ، والاختلاف، والعيش معا ... عصيّ على أغلب التونسيين إذ ينظر لهذه المبادئ من منظور يُهيمن فيه الديني على الحقوقي والقانوني، والثقافي... ثمّ إنّ تحوّل النقاش العامّ إلى صراع وممارسات تفضح الكره والتباغض والعنف في الشخصيات المعطوبة يؤكّد أنّ الفرد لا يزال غير معترف به في المجتمع ذلك أنّ الجماعة/الأمة لا تزال تهيمن عليه بل تروم سحقه أضف إلى ذلك أنّ الفرد لا ينظر إليه على أساس أنّه كائن حرّ قادر على ممارسة حقه في الاختيار بل هو قاصر ومن حق «الناطقين نيابة عن الله» ضرب الوصاية عليه. إنّ «رفع المصحف» في حوار ثقافي وتحويل النقاش إلى مناسبة لترتيل الآيات يعيد إلى الأذهان أطوار «الفتنة الكبرى» ويخبر عن مدى رغبة بعضهم في توظيف الدين والعبث به . وبالرغم من كلّ هذه العلامات الدالة على النكوص و«الرجوع إلى الوراء» والتعويل على «تجارب ماضية» فإننا لن نرجع ... لأنّ من مهام المجتمع المدني أن يرفع الورقة الحمراء.