ومن هذه الأحداث التي أضحت موسمية عندنا احتجاجات شهر جانفي وذلك بغض النظر عن شعاراتها وممارساتها ،فالحكام يهابونها والمعارضون ،أو بعضهم ،يشتاقونها ليبينوا من خلالها خور السياسات العمومية المتبعة ..
نقطة «التوافق» الوحيدة هي الإقرار بحق الجميع في الاحتجاج السلمي والتنديد بالعنف والنهب والبلطجة..ويمرّ جانفي ويذوب في الأسابيع الأولى لفيفري وتعود كل حليمة إلى عادتها القديمة في انتظار جانفي القادم..
وكان في أعمال العنف والنهب والسرقة التي طغت هذه السنة في مناطق معينة من تونس الكبرى ما يغني الجميع عن واجب الوقوف والتأمل والتفكير في دواعي هذا العنف وانتشاره وطغيانه على بقية وسائل التعبير الأخرى في بعض المناطق التي تخلت عنها «الجمهورية» بالمعنى الواسع والعميق لهذه الكلمة..
نحن أمام معضلة تتجاوز الحكم والمعارضة والطبقة السياسية والنخب بجميع أصنافها وانتماءاتها..نحن أمام جزء هام من شبابنا ،وكهولنا أيضا ،فقدوا كل أمل في هذه البلاد وأصبحوا يعبرون عن ذلك في ثنائية قاتلة : الموت أو مغادرة البلاد ايا كان شكل هذه المغادرة..
نعود قليلا إلى الوراء سعيا لفهم ما يحصل أمامنا وما نحن ندير له الظهر في الأغلب الأعم ..
في تونس ،كما في كل دول العالم ،هنالك فئات وجهات ناجحة اقتصاديا واجتماعيا ومعرفيا وأخرى تخلف بها الركب لعوامل يعود جلّها لعوائق تاريخية وجغرافية وديمغرافية، فالمناطق الساحلية ذات الكثافة السكانية العالية كانت دوما أكثر قدرة من غيرها على خلق ديناميكيات تجارية واجتماعية واقتصادية قوية نسبيا. وهذه التمايزات المجالية والفئوية تتعاظم بصفة تكاد تكون طبيعية ولكن في عدة دول حديثة تقوم الدولة بتعديل هذا الانخرام بين المركز (المراكز في الحقيقة) والتخوم لان هذا الانخرام يهدد الوحدة الوطنية للدولة الحديثة..
ودولة الاستقلال في تونس لم تكن بدعة بين الدول إذ استندت عمليتها التنموية على الديناميكية الاجتماعية والاقتصادية السابقة عليها ورغم ذلك فقد حاولت الدولة التونسية الحدّ ما أمكن لها من هذا التفاوت الجهوي والاجتماعي عبر سياسات عمومية تهدف إلى تقريب أهم الخدمات التربوية والصحية لكل المناطق وكذلك بخلق بعض الأقطاب الصناعية علّها بذلك تنشئ ديناميكية تنموية مجالية ولكن سرعة العملية التحديثية اجتماعيا واقتصاديا ومعرفيا استفادت منها للأسباب - التي ذكرنا - المناطق الساحلية. والتخوم لم تعد مقتصرة على جهات بعينها بل أصبحت مدنا وأحياء ضخمة تحوم حول المراكز التقليدية للنمو..
ولقد تمكن حلم دولة الاستقلال ومصعده الاجتماعي عبر التعليم من تعديل نسبي للانخرام الأصلي ومن بث أنه بإمكان الفرد الارتقاء الاجتماعي لو نجح في دراسته..
ومع تعطل المصعد الاجتماعي في تسعينات القرن الماضي تقريبا تبخر تدريجيا حلم الخلاص الفردي بل أصبحت الشهادة الجامعية في مناطق التخوم وثيقة تزويقية في أكثر من نصف الحالات !!
وغني عن القول بأن هذه التخوم التي أضحت فاقدة للأمل أصبحت مناطق خصبة لكل أصناف الجريمة والعنف وأضحى شبابها يقاسي من تمييز وعنف مزدوجين عنف يسلط عليهم داخل هذه الأحياء خاصة وعنف مادي ورمزي يسلط عليهم لأنهم أبناء هذه الأحياء، فأضحى مجرد السكن في بعض الأحياء في بلادنا مجلبة للشبهة وعاملا تمييزيا في التشغيل ..
ولاشك ان كل هذه الوضعيات قد خلقت بدورها أنماطا من التفكير والسلوك والمخيال الجماعي أضحت ترى في «المنظومة» (le système) سبب شقائها وبلائها وانعدام الأفاق أمامها..
نحن الآن أمام صنفين من الخوف والحنق في نفس الوقت : خوف الطبقات الوسطى والميسورة من مظاهر عنف بعض شباب التخوم ورغبتهم في قبضة أمنية صارمة لردع كل اعتداء محتمل على الأملاك والأرزاق ..وخوف ونقمة من بعض شباب التخوم ،وكذلك كهولهم وحتى أحيانا شيوخهم من المنظومة القامعة والتي لا ترى فيهم إلا مسالة أمنية على الشرطة أن تتولى حلّها..
نحن بحاجة إلى الكثير من الهدوء والعقلانية حتى لا يلعب احد على هذه المخاوف المتناقضة ،نحن بحاجة إلى مجتمع متضامن لا يقصى منه احد ويكون فيه الأمل متاحا للجميع ،وهذا يستدعي ألا نكتفي بالحديث عن الثلث المهمش للشعب التونسي فقط عندما تحدث احتجاجات سلمية أو أعمال عنف أو تخريب وألاّ يكون هذا مجالا للاستثمار السياسي السريع وغير الجدي او الاعتقاد بأن أغلبية جديدة قادرة على حلّ سريع لمعضلة نتوارثها منذ عقود طويلة..
هنالك إصلاحات هيكلية تحتاجها تونس حتى تكون قادرة على إدماج جلّ أبنائها بدءا بإصلاح عميق لمنظومتها التربوية والتكوينية تجعل من التفوق أفقا متاحا لأكبر عدد ممكن من أبنائها وصولا إلى جودة الحياة في مناطق التخوم هذه ، ولكن أول إصلاح هو زرع الأمل وإعادة تشغيل المصعد الاجتماعي للتدليل بان النجاح ممكن لشباب مناطق التخوم..
والقول، ولا شك، سهل ويسير ولكن تحويل القول إلى سياسة عمومية ناجزة وناجعة هو الأعسر لأنه يتطلب الخروج من مناطق الرفاه الذهنية لكل النخب وابتكار حلول جديدة تجعل من التخوم مناطق لخلق الثروة والذكاء لا مسألة أمنية تكلف بها قوات الشرطة..
الطريق صعبة وغير معبدة ولكن دون نجاح متاح للجميع فلا نجاح لأحد ..ذلك هو الدرس الأكبر لانتفاضات واحتجاجات جانفي المتكررة في تاريخنا المعاصر ..