في جلّها عن الترفيع في القيمة المضافة بنقطة واحدة وأنه لم يتم الترفيع في المواد الغذائية المدعمة وأن هنالك نوعا من «الحملة الممنهجة» تستهدف الحكومة التي لم تفعل سوى تطبيق الاكراهات الواردة في قانون المالية ..في المقابل يخشى المواطنون من موجة عارمة من ارتفاع الأسعار بدءا بفعل الزيادة في الاداء على القيمة المضافة وفي بعض الضرائب الأخرى ونهاية باستباق التجار والصناعيين ومسديي الخدمات اثر هذه الزيادات وتواصل انحدار قيمة الدينار بزيادات في مختلف المنتوجات والخدمات..
وما يخشاه سائر المواطنين هو تردي قدرتهم الشرائية ببعض النقاط الإضافية وأن يتواصل هذا التردي لسنوات قادمة وان تكون الطبقة الوسطى ،بمعناها الواسع ،الضحية الأولى للاختيارات الجبائية للدولة التونسية ..
ولكن السؤال الأهم الذي لم نجب بعد عنه هو التالي : هل يمكن للدولة التونسية وللتونسيين أن يتجنبوا سياسة تقشفية (بالمعنى العامي للكلمة لا التقني) وهل هنالك من خيارات أخرى أم لا ؟
ليس من السهل الإجابة عن هذا السؤال فنحن أمام معادلة بسيطة في ظاهرها معقدة في مكوناتها الفعلية .
يقول الجميع منذ سنة 2014 على الأقل بأننا نعيش أزمة مالية عمومية حادة تميزت بارتفاع المديونية بشكل غير مسبوق إذا انتقلنا من %41 سنة 2010 (نسبة المديونية إلى الناتج المحلي الإجمالي ) إلى %70 في 2017 ، وهذه السنة مرشحة للارتفاع بنقطتين او ثلاث في 2018 ..وأمام هذه الأزمة لم تتمكن كل الحكومات المتعاقبة من الحد الجدي من الإنفاق
العمومي بل ما فتىء هذا الإنفاق في تفاقم مستمر وذلك لأن الدولة قد عمدت إلى سياسة «توسعية» في السنوات الثلاث الأولى بعد الثورة عساها تحرك التنمية بعامل الاستهلاك ولكنها أخفقت في ذلك فارتفع الاستهلاك وراوح النمو مكانه.. ووجدت حكومة الشاهد نفسها أمام معضلة مصيرية : مواصلة التداين الى حدود تهدد الدولة بعدم القدرة على خلاص ديونها او تعويض جزء من التداين بموارد جبائية إضافية وهذه هي الفلسفة الأساسية لقانون المالية لسنة 2018 : تعويض أكثر من ملياري دينار كانت ستتأتى من الديون الخارجية بمعاليم جبائية جديدة شلمت جلّ النشاطات الاقتصادية وسعت الحكومة إلى توزيعها بصفة متناسقة حتى لا يتم إثقال قطاع بعينه ولكن نحن الآن أمام النتيجة الحتمية لهذه السياسة : زيادات في الأسعار
محدودة إلى حدّ ما وأخرى استباقية يصعب التحكم فيها بما يجعل البلاد أمام مخاطر دوامة تضخمية..
في نوفمبر الماضي بلغت نسبة التضخم رقما قياسيا بـ%6.3 وقد أكدت دراسة قام بها المعهد الوطني للإحصاء أن الزيادة بـ%1 في الأداء على القيمة المضافة ستنتج حتما تضخما إضافيا بـ%0.8 وإذا ما أضفنا إلى ذلك مواصلة انحدار الدينار والتضخم المستورد الناتج عنه فسنقارب %8 أو حتى %9 وعندها يخرج التضخم عن السيطرة وندخل في دوامة نعلم بداياتها ولا نعلم خواتيمها ..
هنالك نقدان يوجهان لفلسفة قانون المالية هذا واحد غير جدي إذ يعتقد أن الأموال موجودة في القطاع الموازي وأنه ما على الدولة إلا أن «تغرف» منه وينسى أصحاب هذا النقد أن جزءا هاما من التجارة الموازية هي أصناف غير قانونية (سجائر مهربة ..العاب ،ملابس مقلدة..بنزين مهرب..) وان القضاء على هذا الصنف من «التجارة» هو قضاء على هذه الأموال وأن القطاع المنظم لن يستوعب جزءا منها إلا بعد سنوات عديدة ..
أما النقد الثاني فوجيه : الدولة نظرت في المداخيل فقط وأهملت عنصر الإنفاق أي أنها فضلت فرض ضرائب جديدة عوض التفكير في التقليل من إنفاقها العشوائي أحيانا ..
هنالك ثلاثة مجالات كبرى للاقتصاد في الانفاق العمومي : التأجير العمومي ودعم المواد الأساسية وضمان خسائر الشركات العمومية المتراكمة والتي تجاوزت قيمتها الإجمالية 6 مليار دينار كاملة !!
الواضح انه لا يمكن إصلاح منظومة التأجير العمومي بقصد الاقتصاد في الإنفاق بصفة هامة وعلى مدى قصير ، إذ لا يمكن «طرد» الموظفين أو التقليص الإداري من نسبة تأجيرهم ..الإمكانية الوحيدة ، وقد عمدت إليها الحكومة ، هي إطلاق برامج للمغادرة الطوعية أو للتقاعد المبكر وعدم تعويض كل المغادرين إلى التقاعد.. ولكن لكي ينتج عن كل هذه السياسات تراجع ملحوظ في نسبة التأجير باحتساب الميزانية العامة للدولة أو الناتج المحلي الإجمالي لابد من بعض السنوات ولن تكون لهذه السياسات من تأثير يذكر في هذه السنة أو التي تليها..
أما المساس الجدي بمنظومة الدعم فما زال غير جاهز وذلك للصعوبات العملية لتوجيه الدعم فقط إلى مستحقيه مما يضطر الحكومة في المدى المنظور إلى قرارات عامة تتمثل فقط في تعديل أسعار المواد المدعمة وهي بذلك تمس من كل فئات المجتمع وبدءا بالطبقات الفقيرة والشعبية والمتوسطة ..
بقي مجال ثالث لم تجرؤ الحكومة على ملامسته إلى اليوم وهو التفريط في بعض المؤسسات العمومية أو بيع أسهم الدولة في البنوك أو التفريط في بعض عقاراتها الى غير ذلك من الموارد الإضافية والتي من شانها أن تضخ أموالا بصفة مباشرة في الميزانية وان تحد بذلك في نفس الوقت من التداين ومن الزيادة في الضرائب على المؤسسات الاقتصادية والأشخاص الطبيعيين بل بالإمكان شراء نسبة من الديون التي اقترضناها في ظروف سيئة ( مدة خلاص قصيرة أو فائدة مرتفعة ) وبذلك نخفف من الدين ومن خدمته أيضا (خدمة الدين العمومي هو ما تدفعه عنها الدولة سنويا من أصل ديونها والفوائد المترتبة عنها )..
يبدو لكل مراقب من بعيد بأن هذا الحل (التفويت في بعض المؤسسات والأملاك العمومية) هو الأقرب والأقل ضررا لاقتصاد البلاد وللقدرة الشرائية للمواطن ولكن هناك تخوف كبير من الحكومة من فتح هذا الملف نظرا للتحذيرات المتكررة لاتحاد الشغل ..
نحن لسنا أمام معضلة ظرفية بل أمام اختيار اقتصادي مصيري فاما التقشف الفعلي( أي تراجع الإنفاق العمومي في التأجير والتحويلات الاجتماعية ) أو التداين بلا حد مع العلم باننا قد أصبحنا نقترض تقريبا فقط لسداد ديوننا وان الفارق بين حجم التداين السنوي وسداد خدمة الدين هو اليوم تحت %20 أي أن أكثر من أربعة أخماس تدايننا تذهب إلى سداد ديوننا فقط لا غير وانه ينبغي أن نضع حدا لهذه المهزلة المستمرة ..
ولكن ندرك جميعا باننا أمام اختيارات كلها صعبة إذ كل حدٍّ من الإنفاق العمومي هو حدٌّ كذلك من محركات النمو سواء كان ذلك في التأجير أو في التحويلات الاجتماعية بأصنافها ، والحلّ الوحيد هو أن نشغل كل محركات النمو الأخرى بأقصى سرعة من استثمار عمومي وخاص وأجنبي وتصدير وتحسين الإنتاج والإنتاجية والانصراف إلى العمل بكل قوة وبكل سرعة بكل جدية وتنشيط النسيج الاقتصادي بخلق المزيد من الشركات الصغرى والمتوسطة وتكثيف السياسات التحفيزية للانتصاب للحساب الخاص وتأهيل جذري لمنظومتنا التكوينية ،وإصلاح جدي للمدرسة وللجامعة وهو إصلاح لم نبدأ بعد حتى في تشخيصه الجيد..
كل هذه الإصلاحات ضرورية وفي نفس الوقت إن أردنا أن نخرج من الدوامة التضخمية أو من المديونية التي تحد من استقلال قرارنا الاقتصادي ولكن يبدو أن ثقافة الاحتجاج الدائم التي تفشت في كل فئات المجتمع أضحت تمنعنا اليوم من هذا الجهد الوطني الجبار للخروج من هذه الازمة ..
ولكن لو أرادت الحكومة بعض الجرأة والشجاعة من مواطنيها فعليها أن تبدأ بإعطاء المثل وبالإقدام على الإصلاحات الصعبة بغض النظر عن الربح أو الخسارة السياسيين..
اقل من سنتين تفصلنا عن الاستحقاقات الانتخابية العامة وفي كل البلاد الديمقراطية هذه الفترة ليست مناسبة لإصلاحات شجاعة وعميقة..
ولكن ظروف البلاد لا تحتمل التأجيل وخسارة سنتين أخريين في طاحونة الشيء المعتاد ...