وهذه المحاولة لم تر النور لأن هذا التحالف لم يكن يمثل سوى 111 نائبا أي أكثر من الأغلبية البسيطة بنائبين فقط... وأمام خطر عدم نيل الثقة أو اضطراب هذه الأغلبية الطفيفة أمام أول مشكل جدي اختار أصحاب القرار الجدد في البلاد سحب هذه «المسودّة» والبحث عن تحالف أصلب مع غريم الأمس حركة النهضة... وهكذا انتقلنا من فكرة حكومة يسندها 111 نائبا إلى حكومة الحبيب الصيد الأولى بإسناد نظري من قبل 180 نائبا... أي حوالي 83 % من مجلس نواب الشعب.. وقد كان يُنتظر من هذه القاعدة الإسنادية العريضة لحكومة الحبيب الصيد تركيز مرحلة دائمة من الاستقرار السياسي الضرورية للبدء في إرساء الإصلاحات الكبرى في البلاد...
ولكن ما بين الحسابات الأولى وحقيقة الميدان السياسي هنالك سنوات ضوئية إذ سرعان ما دخل الحزب الأول، نداء تونس، في أزمة خانقة انتهت إلى حركة انشقاقية كبيرة وشلل شبه تام على امتداد كامل هذه الفترة... والنتيجة أن ترنح التحالف الحكومي بأكمله وفقد الحزب الأول ريادته الطبيعية وانتقلت الأزمة إلى الحزب الثالث الاتحاد الوطني الحرّ ولكن الأساسي في كل هذا ليس هو الواقع الحالي للتحالف الحكومي، أو ما بقي منه، الأساسي والذي يثير مخاوف الداخل والخارج هو هل فقدت البلاد التوازن السياسي الذي ميّزها في انتخابات 2014 أم لا؟
بعبارة أوضح هل سنعود إلى حالة تشبه انتخابات أكتوبر 2011 بحركة إسلامية تمثل ما بين الربع والثلث وشتات من الأحزاب والتنظيمات تتصارع على فتات المقاعد بفضل قانون انتخابي سخيّ أم أن التوازن السياسي سيتواصل وإن كان بعناوين أخرى؟
ينبغي أن ندرك جميعا بان هذه المسالة تشغل بال كل أصدقاء تونس وكذلك المؤسسات النقدية العالمية لأن استقرار الحياة السياسية عنصر أساسي في استقرار البلاد وفي وضوح مآلاتها المستقبلية...
ولعلّ هذه المخاوف هي التي تدفع بأطراف عدة داخل الائتلاف الحكومي وخارجه إلى تكوين «كتلة نيابية كبيرة» لا تتضمن حركة النهضة وتعيد التوازن داخل المؤسسة التشريعية...
وقد تتكون هذه «الكتلة الكبيرة» التي تسمى تارة «سيادية» وأخرى «جمهورية» من نداء تونس وكتلة الحرة والوطني الحرّ وآفاق وقد تلتحق بها المبادرة وبعض النواب المستقلين... والرهان هو الحصول على كتلة نيابية بحوالي 115 نائبا تستعيد بها القوى الوسطية صدارة المشهد بداية وتتحصل كذلك على الأغلبية المطلقة داخل مجلس نواب الشعب بما يجعلها غير مرتهنة، ضرورة، لتوافق دائم مع حركة النهضة...
ولكن وبغضّ النظر عن إمكان تحقيق هذه «الكتلة الكبيرة» من عدمه فالسؤال سيبقى قائما... هل بإمكان هذا التحالف الجديد أن يمثل قطبا هاما على المستوى الانتخابي أم لا؟ فهذا هو الأهم لأن ذلك هو وحده الدال على تواصل التوازن السياسي الموروث من انتخابات 2014، أما لو انهارت هذه الأحزاب الوسطية في الانتخابات القادمة ودون أن تحل محلها أحزاب قوية قادرة على فرض التوازن الفعلي مع الحركة الإسلامية فذلك سيكون مؤذنا بحالة من اللا استقرار السياسي تنضاف إلى أزماتنا الأمنية والاقتصادية والاجتماعية...
اليوم الكل يرصد مختلف الاحتمالات لتطور المشهد السياسي والأسئلة هنا واضحة:
هل يستطيع نداء تونس لملمة ما بقي من أنفاسه ومنافسة حركة النهضة على المركز الأول؟
هل ستكون حركة مشروع تونس التي أسسها منشقون عن النداء بديلا لهذا الأخير وان تفوز في الانتخابات البلدية القادمة كما يبشر بذلك منسقها العام محسن مرزوق؟
هل سنشهد ميلاد حركة وسطية جديدة لرئيس الحكومة الأسبق المهدي جمعة، وهل بإمكان هذه الحركة أن تلعب الأدوار الأولى في الانتخابات العامة (التشريعية والرئاسية) القادمة؟
وبالطبع هنالك أسئلة فرعية أخرى تبقى مهمة كالتساؤل عن مستقبل العائلة الاجتماعية الديمقراطية التي منيت بهزيمة قاسية في 2014.. هل ستستفيد هذه العائلة من أزمة أحزاب الحكم أم لا؟
وأخيرا هل ستتمكن المعارضات الحالية وأساسا الجبهة الشعبية وحراك تونس الإرادة والتيار الديمقراطي وحركة الشعب من لعب أدوار أهم ومن تأكيد أنه لها ثقل الشعبي في الانتخابات المحلية القادمة؟
أسئلة عديدة لا احد يملك اليوم إجابات عنها... ولكنها أسئلة لا ترتهن فقط المستقبل السياسي لتونس بل مستقبلها بأسره.