وحتى الاحتمال القوي لخروج تونس من هذه القائمة بعيد أسابيع قليلة وفق تأكيد أوساط أوروبية عدة، لا يخفف من وقع هذه الصدمة ولا يبرئ بطبيعة الحال من المسؤولية سياسة الدولة التونسية برمتها التي كانت سببا في هذا..
يعلم القاصي والداني اليوم أن فريق كرة القدم لا يدافع فقط بمدافعيه ولا يهاجم فقط بمهاجميه،فكل لاعب وكل خط له دور في الدفاع وفي الهجوم كذلك.. وما يصح على كرة القدم يصح أكثر على سياسة الدولة إذ المسؤولية فيها لا تتقسم وفق تقسيمها الإداري فوزير الداخلية ،مثلا،مسؤول وأية مسؤولية على سياستنا الخارجية وفي بعض الحالات أكثر بكثير من وزير الخارجية ذاته وذلك لأن جزءا هاما من صورة تونس بالخارج مرتبط بأداء وزارة الداخلية فوق ارض الوطن..
لقد شرحنا في عددنا يوم أمس السبب الرئيسي في هذا التصنيف والمتمثل في رفض الاتحاد الأوروبي التفاضل الجبائي الكبير بين الشركات المصدرة والمقيمة والشركات التي تشتغل على السوق الوطنية ،إذ اعتبر أن الإعفاء الجبائي الأولي من الضريبة على الشركات هو من صنف المنافسة الجبائية غير الشريفة..وقد قلنا أيضا بأن هذا الملف كان على طاولة المفاوضات «التقنية» بيننا وبين الاتحاد الأوروبي منذ افريل 2016،أي منذ حكومة الحبيب الصيد،ورغم ذلك لم نفعل شيئا يذكر جوهريا وأوصلنا بلادنا بعد سبع سنوات من الثورة إلى التواجد جنبا الى جنب في قائمة سوداء للملاذات الضريبية..
الواضح أننا بصدد دفع ضريبة أداء ضعف الدولة التونسية بشكل عام،وهنا لا نحمل أشخاصا بعينهم أو أجهزة بعينها مسؤولية ما حدث بل طريقة اشتغال الدولة التونسية وغياب الانسجام على أعمالها وضعف قدرتها على استباق الأزمات وحسن إدارتها..
الاتحاد الأوروبي ليس هو الشريك الوحيد الذي يطالبنا بإلغاء النظام الضريبي التفاضلي بين النظام التصديري والنظام العام،فهذا مطلب كل الأطراف الدولية منذ حوالي 15 سنة أو تزيد.. كلهم كانوا ومازالوا،يعتبرون هذا النظام التفاضلي نوعا من أنواع المنافسة غير الشريفة كما أن إعفاء الشركات الأجنبية المقيمة من الضريبة على الشركات يعتبر منافيا لقواعد المنافسة الشريفة وصنفا من أصناف «الملاذات الضريبية»..
كل هذا تعلمه مختلف أجهزة الدولة منذ مدة ،وكانت بلادنا في كل مناسبة ،قبل الثورة وبعدها ،تتعلل بصعوبات ظرفية (وهي حقيقية) للإبقاء على ما تعتبره احد أهم العناصر الجاذبة للاستثمار الأجنبي المباشر.
لا يهمنا هنا التصرف التقني في هذا الملف بل طريقة حوكمته السياسية ومن ورائها الإستراتيجية الاتصالية والديبلوماسية للدولة التونسية..
ما دمنا نعلم أن هذا الملف أصبح عنصرا من عناصر التفاوض بيننا وبين شركائنا في الاتحاد الأوروبي منذ افريل 2016،ماذا فعلنا منذ تلك الفترة ؟
تصرفنا بصفة «تقنية» و»بيروقراطية» أي مراسلات وأجوبة على مراسلات وأدرنا هذا الملف كما ندير أي ملف تقني عادي دون الوعي بخطورة انزلاقاته فلم نحدث خلية أزمة في أعلى مستوى ولم نحدد خطة اتصالية وبرنامج عمل يتعلق بالشكل والمضمون في ذات الوقت أي لم نجمع أهم المتدخلين التونسيين من نقابة الأعراف وممثلي السلطة التشريعية ومختلف الوزارات المعنية لنرى كيفية إدارة الملف مع دول الاتحاد الأوروبي، كما لم نكلف ديبلوماسيتنا بعقد اتصالات أولية مع كل دول الاتحاد الثماني والعشرين ولم نستغل كافة علاقاتنا مع النخب وقادة الرأي العام في أوروبا لنعرض عليهم قضيتنا ونبين لهم خطتنا لإصلاح الخلل،إن كان هنالك خلل..
ان تصريح «مصدر حكومي « للزميلة «الصباح» يوم أمس بان تونس «لن تخضع لاملاءات الاتحاد الأوروبي» مثير للضحك حقا ولا ندري هل قيل فقط للاستهلاك الداخلي آم أنه فعلا موجه لشريكنا الأوروبي ؟
ولكن قبل «البطولات» الكلامية نريد من هذا «المصدر الحكومي» ان يقول لنا ماذا فعلت الحكومة السابقة والحكومة الحالية في هذا الملف ؟ هل اتصل كبار مسؤولي الدولة التونسية مع نظرائهم الأوروبيين على امتداد هذه الأشهر العشرين لإقناعهم بعدالة القضية التونسية؟هل عمدنا إلى سياسة لوبيات ذكية مع كل مراكز القرار الأوروبية كما يفعل ذلك بإتقان كبير بعض أشقائنا في المغرب العربي ؟ هل خاطب وزير المالية الحالي أو سابقه نظراءه في دول الاتحاد الأوروبي وشرح لهم ما هي وجهة النظر التونسية ؟
للأسف ستكون الأجوبة على كل هذه الأسئلة بالنفي بدليل أن الخارجية التونسية سيتم تكليفها بالتحرك الآن لحل هذا الإشكال !! وهذا هو عين الخور ..
عندما كنا نتناقش في مشروع قانون المالية لسنة 2017 وكذلك 2018 هل تم مجرد ذكر هذا الإشكال ؟ هل قالت الحكومة لاتحاد الصناعة والتجارة أن المواصلة في إعفاء الشركات المصدرة كليا قد تضعنا في القائمة السوداء للاتحاد الأوروبي ؟ !
ويمكن أن نعدد الأسئلة إلى ما لا نهاية له لنرى من خلال هذا المثال الوحيد الضعف الفادح للدولة التونسية في استباق مثل هذا الصنف من الأزمات وان مصالحها أضحت غير قادرة على التمييز بين الملفات العادية التي تحتاج أجوبة «تقنية» وفق «التسلسل الإداري» والملفات التقنية في ظاهرها والتي لها انعكاسات جوهرية على المصالح الحيوية لتونس..
وما يتضح كذلك من خلال هذا الملف تحديدا هو غيابنا الديبلوماسي الفاعل شبه الكلي ونقصد بذلك بأننا لا نملك اليوم وسائل اتصال خاصة ومتميزة مع أصحاب القرار في الدول الأوروبية وان ترديدنا لمقولة «صورة تونس جيدة جيدا بالخارج» هو من قبيل المسكنات التي لا تشفي من أي مرض ولاتقي من أية غائلة..
ونتيجة كل هذا الضعف الفادح في الأداء تعامل معنا وزراء المالية في دول الاتحاد الأوروبي كما يتعاملون مع أي كيان لا وزن ولا طعم ولا رائحة .. ونتيجة لكل هذا لم نجد إلا دولة واحدة تدافع عنا بينما خذلتنا كل الدول «الصديقة» بل ووجدنا دولا عدة تصنف ضمن الدول الصغيرة أصرت على إدراجنا في هذه القائمة السوداء..
بالإمكان أن نتباكى وأن نشكو الزمن ولكن قبل ذلك وقبل تحميل الشريك الأوروبي مسؤوليته كاملة في خذلاننا ولو كان خذلانا مؤقتا ينبغي ان نتحاسب بكل وضوح : ماذا صنعنا نحن ؟ ما هو حضورنا الفعلي في دوائر القرار ولا نقول في الاجتماعات لأن الأساسي لا يحصل في الاجتماعات الرسمية بل في اللقاءات الثنائية والتي تلعب فيها العلاقات الشخصية دورا أساسيا ؟وما هي الخطة التي تم إعدادها لاستباق هذه الأزمة ؟
هذه هي الأسئلة الجوهرية ،وما سوى ذلك فضفضة كلامية لم تعد تصلح حتى للاستهلاك المحلي ..