فمفهوم «القرب» في الصحافة يقوم على كيفية تفاعل المتلقي مع الخبر وأن كل مجالات اهتمامه مرتبطة بالقرب جغرافيا ونفسيا وزمنيا ..فحادث مرور مريع في حيّك يموت فيه شخص واحد أبلغ أثرا من زلزال في قارة أخرى يموت فيه الآلاف..
ومن آثار إعلام القرب هذا أن تغير تعاطي وسائل الإعلام الجماهيرية مع الأحداث ،فالنشرات الأساسية في التلفزات الكبرى لم تعد تبدأ عناوينها الأولى بأهم الأحداث السياسية في العالم بل بأحداث القرب والتي كانت توضع كلها تحت خانة «المتفرقات» (Les faits divers).
ويبدو أننا قد أصبنا في تونس بهذه العدوى لا فقط في مجال الإعلام بل وفي ممارسة الحكم أيضا فكثرت «الزيارات الفجئية» والتركيز على اهتمام الحكام بجزئيات حياة المواطن..وهنا تتمازج السياسات التسويقية بـ«حكم القرب» فالحاكم لم يعد في كرسيه العاجي بعيدا عن الناس ولا يهتم إلا بالملفات الكبرى وبالسياسات الإستراتيجية ..الحاكم ينزل من عليائه ويهتم بمدرسة مخصوصة او بمواطن ويمزج بين إيجاد الحلول لولاية ما في مجملها وان تكون لهذه الحلول انعكاسات على كل معتمدية وإن أمكن على كل عائلة..
و«حكم القرب» لا يعني فقط الاقتراب الجسدي من الناس والذي كان يسميه الزعيم الحبيب بورقيبة بالاتصال المباشر ..ان حكم القرب يعني اقترابا جسديا من الناس واقترابا ذهنيا أيضا أي الاقتراب من مشاكلهم اليومية على بساطتها او صعوبتها على عكس فلسفة الاتصال المباشر التي كانت تقوم على تقريب القضايا السياسية والوطنية الكبرى من الناس بواسطة اقتراب جسد الزعيم منهم..
وبالطبع المرجو من «حكم القرب» تماما كما كان الأمر من «صحافة القرب» هو النفاذ إلى عمق الأهالي المستهدفين «La population cible» وإقناعهم بأنهم هم مركز الاهتمام وغاية العمل..
ففي حكم القرب لم يعد الحاكم يلتزم أمام الشعب في عموميته بل أمام أناس مخصوصين رآهم ورأوه وربما صافحهم لينتقل عقد الحكم من التجريد إلى اللمس..فالوعود التي يطلقها الحاكم لم تعد أرقاما مجردة تستهدف الوضع العام بل نوعا من الالتزام الشخصي بتحقيق أمر ملموس في حياة المواطن الذي صافحه او تحدث إليه او رآه بالعين المجردة على بعد أمتار معدودات..
ففي «حكم القرب» عفوية وتبادل وبناء ولو وقتي لعلاقة ترنو إلى الأفقية بين الحاكم والمحكوم وإن كان المحكوم دوما يطالب والحاكم يعد بالاستجابة..
ولكن لا عفوية البتة في إستراتيجية «حكم القرب» فهذه خطط يضعها «خبراء» الاتصال السياسي ليعطوا بها دفعا معنويا جديدا للحاكم ولكي يجعلوه «شعبيا» وقريبا من الناس و«إنسانيا» وكلها خصال يسعى الحكام إلى اكتسابها وتحسينها باعتبارها عوامل أساسية لمنح الثقة فيهم أو لتجديدها ..
فالمقصود من «حكم القرب» ليس فقط الوقوف على المشاكل الجزئية لبعض المواطنين في منطقة معينة، بل وأيضا وأساسا، اكتساب الحكام خصالا جديدة ضرورية في ديمقراطية الصورة والانطباع..
ولكن ككل إستراتيجية اتصالية لـ«حكم القرب» حدود ومخاطر أيضا ..
من حدود حكم القرب هو إشعار الناس بأنه لا وجود لهياكل وسطى بين الحاكم والمحكوم..اي أن هنالك المواطن ورئيس الحكومة ولا شيء بينهما ..فالمواطن عندما يشتكي من وضعية ما فهو يشير بالإصبع ،ولو بصفة غير شعورية ،لهياكل الحكم الوسطى ..ورئيس الحكومة عندما ينزل «إلى الميدان» ويعاين بنفسه «النقائص» فهو يقول بهذا حتى وان لم ينطق به بأن هياكل الحكم الوسطى هي المقصّرة، وأن تقصيرها هو الذي «يجبره» على النزول إلى «الميدان» بنفسه، وانه لو لا ذاك لما تحركت الآلة الثقيلة لهياكل الحكم الوسطى..إنه عمر بن الخطاب ولكن في عصر الانترنت..
ولحكم القرب أيضا بعض المخاطر وليس من أدناها مشهدية العمل السياسي وغياب الرابط بين مختلف التصريحات وكثرة الوعود وجزئيتها وعدم انجازها كلها والاضطرار إلى «تفعيلها» في زيارة قادمة..أي أن الخطر الأكبر الذي يتهدد من يعمد لحكم القرب هو فقدان المصداقية اذ يكون كثير الوعود قليل الانجاز ..
في الحقيقة لا وجود لحاكم على وجه الأرض لا يعمد الى «حكم القرب» كإحدى أهم استراتيجيات الاتصال السياسي ولكن الحذر كل الحذر من تحويل كل ممارسة الحكم إلى «حكم القرب» والى عملية اتصالية فقط لا غير ..
«حكم القرب» مفيد جدّا للسياسي لو كان عنصرا من إستراتيجية بيداغوجية تقول للناس ان مشاريع الحكومة الإجمالية تترجم فعليا في حياتكم اليومية.. ففي الحكم الانجاز هو الأساسي ،والاتصال عامل مكمّل، لا عاملا معوّضا..