فما الذي يمكن أن نستنتجه بعد هذا الإعلان؟
أولى الملاحظات أنّه يجوز لأية جماعة في تونس القرن الواحد والعشرين، ووفق هذا الإعلان، أن تحتكر النطق نيابة عن الله وأن تعتبر نفسها «المرجع العلمي والشرعي الوحيد» في عصر عولمة المعرفة وتعدّد وسائطها، وفي بلد آمن بالتعددية الفكرية والدينية والاثنية. كما أنّه يجوز لمن نصبّوا أنفسهم «مشايخ تونس» امتلاك سلطة الاجتهاد في كلّ النوازل والإفتاء في كلّ المسائل.
أمّا الملاحظة الثانية فتتمثل في عودة التنازع حول طبيعة العلاقة بين الديني والسياسي وبروز منزع لدى «حراس الشريعة» يروم بسط نفوذه على كلّ المجالات وفرض هيمنته على الجميع في محاولة لاستعادة موقع قديم وسلطة زالت فإذا بمحاولات استرجاعها تتكرر.
وهكذا تلوح معالم القسمة أو كما يزعم البعض الفصل بين السياسي والديني. فلسياسيي النهضة أن يصوّتوا على قوانين تحلّل بيع الخمر ولهم أن يحضروا حفلات النجوم، ولهم السفر إلى الخارج برعاية مركز الإسلام والديمقراطية للحديث عن تجربة الإسلام المعتدل، والديمقراطية والحرية...وللدعاة والمشايخ أن يهتموا بالمشروع الدعوي وأن يرسخوا التدافع الاجتماعي ولا ضير في ذلك مادام هذا يخدم ذاك ومادام القبول بما يتلاءم مع السياق الحالي مفروضا فهناك إكراهات وتوازنات سياسية ولابد من التفريق بين ما هو ممكن الآن وما هو ممكن على المدى البعيد وذاك هو التفكير الواقعي.
لا غرابة في وجود أسماء داخل تركيبة هيئة المشايخ «والشيخات» عرفنا توجهها الفكري في مناسبات عديدة مثل حمدة سعيد و نور الدين الخادمي وغيرهم ولكن ما يلفت الانتباه هو تأثر القوم بفكرة التمكين النسائي. فها هم يفتحون المجال أمام النساء وإن باحتشام وبعيدا عن مبدأ التناصف ليشاركن في الحسم في ما أشكل على الناس.
ومن المهمّ تبيّن هوية العضوات وخلفياتهن الفكرية. ففاطمة شقوت أستاذة الشريعة بالزيتونة هي خطيبة وداعية في الفضاءات العامة والخاصة وفي الإعلام كالقناة الوطنية الأولى ومنذ 2012 كانت تعبّر عن رؤيتها للدولة ولمكانة الدين في تونس المحررة. والناظر في خطاباتها يقف على عبارات من قبيل «الحاكمية لله...» والمشرع هو الله وحده، وحقوق الإنسان الإسلامية، والشريعة هي ضامن حقوق الإنسان فما قررته الشريعة ينسجم مع فطرة الإنسان.. أمّا المرأة في نظرها فهي «صانعة الرجال» ، وقد ولدت من صلب الرجل فلا يجب أن تعاديه لأنّ العداوة هي مع الشيطان ومؤخرا ظهرت «شقوت» على الجزيرة مباشر لتعلن عن «الصدمة الحقيقية» بعد إعلان رئيس الجمهورية عن رأيه في زواج المسلمة بغير المسلم
ومسألة المساواة في الإرث فقائد السبسي في نظرها «ممثل شعب مسلم»، ودولة مسلمة يتجرأ على كلام رب العالمين ويدعو إلى إحداث التبديل في «أحكامه» وهو يفتح مجالا «سنشرع فيه للمعاصي قانونيا». أمّا مبرراتها لرفض زواج التونسية بغير المسلم فتعود إلى أنّ «الزواج هو للتصنيع واخراج وانتاج اجيال فأين هذا المقصد اذا التقت مسلمة بالكافر «هذا بالإضافة إلى أنّ القوامة والولاية لا يمكن أن تكون بيد كافر» لاسيما وأنّ «دين الآخر فيه تحريف».
أمّا سناء الحداد فهي محامية وتعد رسالة دكتوراه حول ميراث المرأة في مجلة الأحوال الشخصية. وقد ترشحت عن حزب النهضة بالمجلس التأسيسي.وهي تدعو إلى اعتماد الشريعة مصدرا أساسيا للتشريع وذلك لضمان قوانين لا تتنافى مع المبادئ الإسلامية، وقد خاضت نقاشا حادا مع منجي الرحوي حول الإسلام فاعتبرت أنه دين الدولة وليس دين الشعب فحسب ورأت أنّ دستور 1959 نص على دين الدولة وليس على مدنيتها واعتبرت أنّ «البعض انسلخ من ضمير الأمة» ودافعت عن التنصيص على تجريم المقدس، وهي ناشطة تقدم المحاضرات في الجمعية التونسية لأئمة المساجد بسوسة وغيرها.
أمّا سلمى صرصوط فهي حاملة لإجازة من كلية الآداب بالرباط وقد ترشحت عن قائمة حزب النهضة فكانت عضوة بالمجلس التأسيسي ومن تصريحاتها المعلومة أن «المبزع» كان سببا في توقيع اتفاقية «السيداو» ونزع التحفظات عن بعض فصولها المخالفة لعقائد وتقاليد التونسيين دون الرجوع إلى الشعب و«اليوم سنعيد هذه التحفظات لحماية الأسرة».
تبدو أهداف تأسيس هذه الهيئة واضحة لا غبار عليها: التصدي لإقرار الحريات الفردية ومدنية الدولة وإعادة فتح ملفات لم تحسم بطريقة نهائية... ومع بزوغ هذه الهيئات والنقابات والجمعيات يلوح مشروع الضغط باسم الدين والتنازع من أجل اكتساب السلطة...