حتى لا نغرق في التفاصيل

في ديمقراطيات كثيرة يسقط المشهد السياسي/الإعلامي في صغائر الأمور وسفاسفها وذلك قد يكون مفهوما في بعض الحالات لأن الجزئيات هي التي تشد

الانتباه خاصة عندما تتوفر على درجة كبيرة من الفضائحية..

ولكن عندما لا تهتم النخب السياسية والإعلامية إلا بهذا فهي تمهد لحتفها ولقطيعتها عن قطاعات واسعة من المجتمع..

وعندما يسقط المشهد السياسي /الإعلامي في صغائر الأمور يكون ارتياب الناس عاما وشاملا ينصب على الأغلبية وعلى المعارضة على حدّ سواء وعلى الإعلام الترفيهي وعلى الإعلام الجدي دون تمييز..

فصغائر الأمور هي كالضباب بالنسبة للسيارات : تحجب الرؤيا وتسهم بقوة في توتر السائق ..هذا لا يعني أن المواطن لن ينجذب للنقاش السياسي الهادئ والمعمق فهو يحتاج – حتى في السياسة- إلى الترويح عن النفس والى المزاوجة البيداغوجية بين الأساسيات والجزئيات ..وأكثر ما يعمّق ضجر الناس هو العنف اللفظي في الحوار السياسي خاصة عندما يدافع الخصمان عن وجهات نظر متقاربة في الجوهر ولكنهما يتفننان في الصراع وأحيانا السباب حول تفاصيل تافهة لايهام الناس بخلاف جذري لا وجود له إلا في المشهدية السياسية الإعلامية لا غير..

في السياسة خلافات جوهرية حول التوجهات العامة ،وهي خلافات عميقة وتطور المواقف حولها بطيء ولكن الديمقراطية تقوم على مبدإ غير مكتوب مفاده أن ما يجمع مختلف ألوان الطيف السياسي هو أكثر ممّا يفرق بينها،أو لنقل بأن ما يجمّع وهو الأغلب الأعم،لا يُرى دوما لأنه ليس محل نقاش في ديمقراطية عريقة إلا بالعرض ،وهذا الجذع المشترك هو الذي يسمح بتقدم المجتمع و الانجاز السياسي كذلك ،وهو ما يمنع الخلافات إلى أن تتحول إلى معيقات للفعل والانجاز..

في ديمقراطية ناشئة ومتعثرة كتلك التي نعيشها في تونس نحتاج جميعا إلى منجز مشترك والى التقدم سويا لترسيخ المؤسسات والثقافة الداعمة لها والسلوكات الحسنة التي تمنع من الرجوع إلى الوراء..

إنّ أسوأ ما في هذا الوضع الانتقالي هو غلبة الشعور بأننا نراوح مكاننا وأن خلافات السياسيين الحقيقية والمفتعلة بصدد تهديد البناء المشترك..

لا وجود لوصفة جاهزة ولا يملك أي طرف من أطراف اللعبة أن يحدد لوحده ما هو الجذع المشترك الذي ينبغي دعمه وتوطيد أركانه وما هي مجالات الخلاف المتروكة للنقاش العام..انه النضج المتزامن لأهم أطراف المشهد السياسي الإعلامي القائم على تجسير الثقة بين المواطنين وطبقتهم السياسية..

ومن أهم مكونات هذه الثقة المتبادلة نجاح الديمقراطية الناشئة في انجاز انتخابات حرة ونزيهة وشفافة تضمن المشاركة الشعبية والتداول السلمي على السلطة..

ولهذا كان ما أصاب المسار الانتخابي والهيئة المشرفة عليه تهديدا هاما لهذا التنفس الضروري في كل ديمقراطية..

مازالت تفصلنا خمسة أسابيع عن الانتخابات التشريعية الجزئية في ألمانيا وأربعة أشهر ونصف عن الموعد النظري للانتخابات البلدية وهيئة الانتخابات دون رئيس بفعل تنازع كتل الحكم والمعارضة وانصياع بعض أعضاء الهيئة لهذه اللعبة الضارة والسامة لانتقالنا الديمقراطي الهش..

إن تأكيد رئيس الجمهورية يوم امس لدى استقباله لوفد من هيئة الانتخابات على التزامه الشخصي بإصدار امر دعوة الناخبين للانتخابات البلدية متى توضحت الصورة داخل الهيئة – أي انتخاب رئيسها- ومتى حصل أوسع اتفاق حول تاريخ يوم الاقتراع هو من صميم صلاحياته الدستورية ونريد أن نرى فيه استحثاثا للجميع لتجاوز الحسابات الصغيرة والمصالح الضيقة حتى لا يفوتوا على البلاد فرصة هامة للتقدم والانجاز سياسيا واجتماعيا..

بلادنا في مفترق طرق وهي تملك كل عوامل النجاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي ولكنها قد تهلك لو تناحرت نخبها ولو طغت عليهم صغائر الأمور وسفاسفها ولو تناست الأهم وغلبت ما تعتبره المهم أي المصالح الأنانية والضيقة لكل طرف..

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115