وكان من المفروض أن يدفع هذا الاعتداء الغادر واستشهاد الرائد بروطة إلى مزيد من التضامن الوطني في مكافحة هذه الآفة الخبيثة التي حلت ببلادنا وببلاد كثيرة في العالم وأن نتباحث في أفضل السبل وأقومها للتوقي من مخاطر هذا الإرهاب الرثّ الذي يندس بين ظهرانينا دون علامات ظاهرة ويدفع بأفراد معزولين إلى اقتراف جرائم بشعة دون أن يكونوا تحت مناظير المصالح الأمنية المعنية..
لاشك أن العملية الإرهابية الأخيرة تدل على يأس وضعف الجماعات الإرهابية وعدم قدرتها على تنظيم اعتداءات منظمة ولكن حتى هذا الإرهاب الرثّ خطير وخطير جدّا وهو إرهاب قاتل ووسائله (الهجوم بالأسلحة البيضاء أو الدهس بالسيارات) قد تكون فاتكة.. ولكن حرمت تونس مرة أخرى من وقفة خشوع مشتركة فخرجت علينا ثلاث نقابات أمنية، نتفهم لوعة كل منخرطيها، ببيان مشترك فيه استفزاز لمؤسسات الدولة وإعلان ما يشبه التمرد عليها إذ أعطت هذه النقابات (نقابة موظفي الإدارة العامة لوحدات التدخل ونقابة موظفي الأمن العمومي والاتحاد الوطني لنقابات قوات الأمن التونسي) مهلة بأسبوعين لمجلس نواب الشعب حتى يعرض قانون تجريم الاعتداءات على قوات الأمن الداخلي (وفي الحقيقة على القوات الحاملة للسلاح) على أنظار الجلسة العامة وفي صورة عدم استجابة السلطة التشريعية لهذا التهديد فان هذه النقابات ستقرر «رفع الحماية الأمنية عن كافة النواب ورؤساء الأحزاب الممثلة بالبرلمان بداية من يوم 25 نوفمبر 2017». نعم هكذا !!
لا نعتقد انه من الحكمة تقسيم الرأي العام حول قضية الحق فيها واضح ولا لبس فيه ..من حق كل قواتنا الحاملة للسلاح والمستهدفة اليوم من قبل المجموعات الإرهابية والإجرامية وحتى من قبل بعض الاحتجاجات الشبابية في حماية نفسها وممتلكاتها ومقراتها العامة ومحلات سكناها وأهالي الأمنيين..
كل هذا حق وكل هذا واجب المجموعة الوطنية كذلك ونعتقد ان البلاد مازالت مقصرة في واجب الحماية وفي حجم وطبيعة التعويضات لعائلات شهداء قواتنا الحاملة للسلاح (انظر مقال دنيا حفصة) ولكن هل يمكّن مشروع قانون زجر الاعتداءات على القوات المسلحة من مزيد حماية الأمنيين أم لا ؟
لنحاول حوارا هادئا وعقلانيا قدر الإمكان في بلاد أصبحت تفقد بسهولة هدوءها وعقلانيتها ..
• أولا : قد يوحي بيان النقابات الأمنية أن هنالك فراغا قانونيا عندما يتم الاعتداء على القوات الحاملة للسلاح وهذا بالطبع غير صحيح فكل اعتداء بالعنف اللفظي أو المادي مجرّم في بلادنا خاصة عندما يتعلق بموظف عمومي..
ففي حالة الاعتداء الإرهابي ليوم الأربعاء الفارط والذي نتج عنه استشهاد الرائد بروطة يقرر قانون مكافحة الإرهاب عقوبة الإعدام للجاني وفي صورة اعتداء لم تنجم عنه وفاة تكون العقوبة بالسجن بقية العمر كما ينص على ذلك الفصل 13 من القانون المذكور. ومن يتصفح المجلة الجزائية يجد فيها أحكاما في غاية الصرامة تجاه كل اعتداء فردي أو منظم مسلح أو غير مسلح على الأفراد والممتلكات العادية فما بالك بمقرات السيادة وهي تعتبر من ظروف التشديد في العقوبة..
• ثانيا: الإشكال هنا ليس في تشديد العقوبات كأن نحول 10 سنوات سجنا إلى 20 سنة ، الإشكال أنه قليل ما يتعهد القضاء حالات الاعتداء على الأمنيين وعلى مقراتهم خاصة عندما يتعلق الأمر باحتجاجات اجتماعية عنيفة وفي الحالات القليلة التي ينطلق فيها مسار قضائي سرعان ما يتم إيقافه سياسيا لتهدئة الخواطر ولاستتباب السلم الأهلية..
لقد أحصت النقابات الأمنية أكثر من ستة ألاف اعتداء خلال هذه السنوات الست الأخيرة بما يعطينا معدلا بحوالي ثلاثين اعتداء ،يوميا، والسؤال المحوري هو هل يكون الحدّ من هذه الاعتداءات بالتشديد في العقوبات أم في تطبيق العقوبات الحالية ؟
والواضح أن من بين العوامل التي شجعت على استسهال الاعتداء على الأمنيين وعلى مقراتهم هو ضعف نسبة التتبع القضائي لهذا النوع من الجرائم وأن الدولة لم تجرؤ إلى حدّ الآن على تطبيق القانون وزجر كل اعتداء مهما كان بسيطا..
• ثالثا: كل هذا لا يعفي بالطبع من المراجعات القانونية الضرورية ومن بينها قانون مكافحة الإرهاب ومنع غسيل الأموال والذي تمت المصادقة عليه في صائفة 2015 إذ نجد في قسمه الثاني والمعنون بـ«في الجرائم الإرهابية والعقوبات المقررة لها» 25 فصلا شاملا لجلّ أصناف الجرائم الإرهابية الممكنة كالاعتداء على شخص يتمتع بالحماية الدولية (فصل 25) ولكننا لا نجد فصلا يخص الاعتداء على القوات الحاملة للسلاح..
قد يكون من المفيد التنصيص بوضوح على الجرائم الإرهابية التي تستهدف القوات الحاملة للسلاح كما نرى انه من المفيد التمييز بين الاعتداءات على الأمنيين ذات الصبغة الإرهابية من جهة والاعتداءات الإجرامية ..
• رابعا : لا شيء يمنع تخصيص الأسلاك الحاملة للسلاح بقانون لحمايتهم وحماية مقراتهم ومساكنهم وأهاليهم ولكن مشروع القانون المعروض على مجلس نواب الشعب يتجاوز هذا الغرض النبيل بكثير إذ نجد فيه بابا كاملا تحت عنوان «الاعتداء على أسرار الأمن الوطني» فيه فصول مخالفة لصريح الدستور وللقوانين المنظمة للبلاد إذ لو طبقناها على قضية الشهيد البراهمي لقضينا بالسجن لمدة 10 سنوات على كل من كشف وتحدث عن وثيقة وكالة الاستخبارات الأمريكية..وهذا الباب يجد اعتراضا كبيرا من قبل جلّ النقابات الامنية. وفي الباب الثالث المخصص لزجر الاعتداء على القوات المسلحة ومقراتها ومنشاتها وتجهيزاتها خلط بين الايجابي والسلبي اذ نجد فيه نوعا من الاستهداف المبطن للاحتجاجات الاجتماعية التي يشوبها عنف – وهذا مرفوض بأحكام مبالغة في القسوة..
• خامسا: بيت القصيد فيما يبدو هو الفصل 18 والمتعلق بتعريف فضفاض لحالة الدفاع الشرعي .. والإشكال هنا هو في المعادلة بين تقدير درجة الخطر الذي يستهدف عون الأمن وطريقة رده عليه بما في ذلك استعمال السلاح وحتى قتل المعتدي.. يستوجب هذا الفصل لوحده نقاشا طويلا مستفيضا للموازنة بين الأمرين حتى لا يصبح الأمني دون محاسبة لكل استعمال مشروع أو غير مشروع لسلاحه وحتى لا نخضعه لتقييدات كبيرة يصبح فيها مخيرا بين أمرين أحلاهما مرّ : عدم الرد بالسلاح بما قد يعرضه لخطر محقق أو استعمال سلاحه وتعرضه للسجن بعد ذلك..
لقد وضحت كل قوانين الدنيا حالات الدفاع الشرعي عند المواطن العادي وعند الموظف الحامل للسلاح وهذا ما لم يحصل بعد في بلادنا..
كل هذا لنقول بأنه من حق الأمنيين أن يحموا قانونيا واجتماعيا وقضائيا ماداموا في أداء مهمتهم وفق القانون والأخلاقيات المرتبطة بها ولكن هل يمكن أن يحصل هذا تحت تهديد النقابات الأمنية ؟ وهل من مصلحة الأمنيين أن يحصل انقسام في الرأي العام حول هذا الحق المشروع ؟
كل ما نتمناه أن يتغلب منطق العقل على العواطف الهوجاء فنحن نتحدث عن اختيارات جوهرية لمجتمعنا فيها توازنات معقدة..
رحم الله الشهيد الرائد رياض بروطة ورحم الله كل شهداء قواتنا الحاملة للسلاح فهي الدرع الواقي للوطن من آفتي الإرهاب والجريمة المنظمة ولكن الوفاء لدماء الشهداء يقتضي تثبيت المؤسسات الديمقراطية وتأمين دولة العدل والقانون لا التشريع لتناحر الكل ضدّ الكلّ.