العاطفي وشدّة الانفعال والمبالغة في الإدانة واللجوء إلى التوظيف السياسي والأيديولوجي...كلّ ذلك على حساب عقلنة الحدث. فبالرغم من وعي عدد من الفاعلين الحقوقيين والاجتماعيين والسياسيين والإعلاميين بوجود عدّة معطيات مع عدد من «الحراقة» فإنّ أغلبهم لا يتجرّأ على قول الحقيقة ويفضّل البروز في صورة المنحاز إلى الشباب.
لابدّ من الإقرار بأنّ دراسة الهجرة السريّة عرفت تطورا عبر التاريخ وصار لها مسار، وشكلّت مبحثا هامّا خاض فيه الدارسون الغربيون منذ العشرية الأخيرة، وتناولوه من خلال مقاربات متنوعة:سوسيولوجية ونفسية وأنتربولوجية وقانونية وغيرها. فلا يمكن إذن أن نفهم ما يحدث خلال الأشهر الأخيرة، بأدوات تفكيك تم تجاوزها معرفيّا، وإنّما علينا تغيير البوصلة وبؤرة التحليل. ولعلّ السؤال الجدير بالنظر: ما هو موقع البحوث التونسية في هذا المجال؟ وهل حيّنا الإحصاءات وكثّفنا الدراسات الميدانية وعدّدنا الفرضيات لنتوصّل إلى فهم أفضل وتقديم قراءات توظف في رسم السياسات؟
أمّا السؤال الثاني الذي يجب أن يطرح فيتعلّق بتحوّل 'الحرقة' من ظاهرة اجتماعية إلى صورة من صور الجريمة المنظّمة التي يشارك فيها عدد من الفاعلين منهم: الوسيط والمكلّف بالتنظيم وجمع الأموال وغيرها. ولاشك عندنا أنّ الفايسبوك أضحى فضاء للاستقطاب والترويج لمشروع 'الحرقة' وتنظيم التسفير. فما الأسباب التي تجعل فئة من التونسيين يحترفون الإجرام ويتفنّنون في المتاجرة بأرواح الفئات الهشّة دون أدنى خجل أو شعور بتأنيب الضمير؟
ويكمن السؤال الثالث في مدى مسؤولية الأهل عن هذه «المحرقة». ألم تبع عدد من النسوة حلّيهن من أجل أن ينجح ابنها في تخطّي الحدود والوصول إلى «برّ الأمان»؟ ألم يمارس الأهل ضغوطا على الأبناء حتى يقتدوا بغيرهم وينطلقوا في اتجاه «بلاد الطليان»؟ ألم يعيّر الأب ابنه العاطل والعوّال على جهده وقوته مطالبا إيّاه بأن يكون «رجلا»، وليست مغامرة «الحرقة» إلاّ فرصة لإثبات الرجولة؟ ألم يغر الأخ إخوته وأبناء عمومته بضرورة «أن يقطّع» ليعرف رغد العيش في «البرّ الآخر»؟
ولا يمكن أن نتغافل عن طرح سؤال رابع يتمثل في دور المجتمع المدني وكلّ الفاعلين في المجال الثقافي. فلم تغافلت مختلف مكونات المجتمع المدني عن تكثيف برامج التوعية والتأهيل وغيرها؟ لم عجز هؤلاء عن هدم صورة المهاجر التي تسوّق للنجاح في تخطّي الصعوبات وتحقيق الحلم والحال أنّ الواقع يفنّد ذلك؟
ثمّ إنّ تحوّل مغامرة «الحرقة» إلى مشروع جماعيّ تشارك فيه العائلة برمتها، وإقبال المراهقين، والنساء اللواتي ينظر إليهن على أساس أنّهن «ولاية» على رمي أطفالهن إلى التهلكة يطرح سؤالا خامسا: ألسنا إزاء تحوّل في مستوى الهويات والمنظومة القيمية والمنظومة التربوية؟ ألم تستغل الأسر السياق القانوني الأوروبي الذي يمنع إعادة المراهقين ويمنحهم فرصة العيش الكريم فساقت الأبناء سوقا إلى الهجرة؟
إنّ قضية «الحرقان» قضيّة معقدة لا تختزل في طرح واحد بل تحلّل وفق مقاربات متنوعة تساعد على تفكيك المتخيل الجمعي وتمثلات الهجرة إلى الغرب، وعلى هذا الأساس فإنّ دولة بلا سند معرفي لا يمكن أن تتجاوز أزماتها. وبدل تزييف الوعي وممارسة العمى الإرادي علينا أن نواجه أنفسنا : لم بات الشاب/ة مقاطعا للدراسة الجادة والعمل الدؤوب، رافضا الاعتراف بقصوره وهشاشة معارفه ؟ لم أضحى الشاب/ة ملولا ، متسرعا رافضا الصبر والتدرج من وضع إلى آخر؟ لم بات اختزال المسار الحياتي في القيم المادية، والقفز على المراحل على حساب المنظومة القيمية مشروعا ؟
إنّها حالة استلاب فكري وضياع وهشاشة نفسية تتطلب منّا فتح ملفّ علاقة الشباب بالوطن وتمثلاتهم للعمل، النجاح ، المستقبل، العلم، الثقافة، الأخلاق ... بجدية وجرأة وعمق.