ومقاصد نشرها و«صدقية» ما تضمنته من معلومات فإنّ الموضوع يستدعي النظر في خلفية هذه المطالب الموجهة إلى الحكومة لترحيل «النساء والأطفال».
لا شكّ عندنا أنّ مرحلة «ما بعد داعش» تفرض تسوية بعض الوضعيات استعدادا لإعادة بناء مجتمع ما بعد الحرب والتوحش والدمار المادي والنفسي الذي خلّفته «الدولة الإسلامية». من هذا المنطلق فإنّ مطالبة السلطة السورية بترحيل التونسيات مفهوم خلافا للوضع الليبيّ الذي لم يعرف الاستقرار بعد، ولم تنشأ دولة قادرة على إدارة شؤونها أسوة ببقية دول الجوار. وقد ترتّب عن هذا الوضع استمرار العبث بمصالح الليبيين وهيمنة الدول الأجنبية وتصرّفها في مصير الشعب الليبي. والسؤال المطروح هنا :لم تسعى بعض الأطراف إلى ترحيل النساء والأطفال؟ وهل هذه أولوية أم أنّ الأمر يتعلّق بتحسين شروط التفاوض حول مسائل أخرى وما ترحيل النساء إلاّ ورقة ضغط تستعمل لتسوية ملفات أخرى. وهذه الطريقة في التعامل بين الدول هي في الواقع غير مستغربة. ففي حالات الحرب تتحوّل أجساد النساء إلى رقم يدخل في معادلات سياسية أكبر وأشدّ تعقيدا.
وبالرغم من تجنّب الحكومة التونسية فتح ملف عودة التونسيات وتجاهلها لحقّ المواطنين في معرفة ما يجري في الكواليس، وعبث المسؤولين بممارسات ديمقراطية بدأت تدخل حيّز التطبيق كالشفافية والحوكمة الرشيدة وغيرها فإنّ عودة السجينات والأطفال تشكّل موضوع نقاش وطنيّ، وتستدعي «معالجة» حكيمة لهذا الملف وغيره من الملفات المتعلقة بالإدماج والمحاسبة والعقاب ...
والمتأمّل في شهادات رحمة الشيخاوي ، وغفران الشيخاوي ووحيدة وعزة وغيرهن ينتبه إلى ارتفاع أصوات التونسيات اللواتي رحّبن بالإجابة عن أسئلة المحاورين، وتفاعلن مع الإعلام فقدّمن بلكنة سورية أو ليبية، معلومات حول رحيلهن ونمط عيشهن في مصراتة أو غيرها من المدن الليبية أو السورية وتحدّثن عن زيجاتهن، وطرق التخطيط والعمل والنزاعات التي قسّمت الموالين لداعش. ويبدو خطاب بعضهن معبّرا عن المخاوف أو القلق بشأن المستقبل في حين يظهر خطاب آخر مشير إلى خيبة الأمل بعد سقوط دولة الخلافة وبين الخطاب الأول والخطاب الثاني خطاب ثالث تزعم صاحباته أنّهن ضحايا التعبئة والتجنيد العائلي والالزام الزوجي.
أما مطالب التونسيات فتنقسم إلى قسمين: إمّا مطالبة الحكومة بمساعدتهن على العودة إلى أرض الوطن و«عفا الله عما سبق» أو مطالبة السلطة السورية أو الليبية بإخراجهن من السجن وتمكينهن من العيش في أمان باعتبار أنّ هذه الفئة قطعت مع التونسيين ولم تعد تعترف بتونس وطنا يطيب فيه العيش بعد هذه المغامرة، وهو وضع يطرح أسئلة بشأن طريقة التعامل مع هؤلاء الرافضات للعودة، ومع أطفال تصرّف الكبار في مصيرهم فساقوهم سوقا إلى فضاء الأمة وتطبيق الشريعة وتطهير الأرض من الكفار...
لهذا الموضوع أبعاد قانونية تخصّ نظام العقاب... وأخرى حقوقية فمن السجينات من تعرضت للاغتصاب ومنهن من عنّفت...وأخرى نفسية ذات صلة بالصدمات وما بعدها Post Trauma، وأخرى اجتماعية تتعلّق بأساليب الإدماج والوصم الاجتماعي... وأخرى استخباراتية تتصل بطريقة التثبّت من المعلومات، وأخرى بحثية ذات وشائج بالعدّة المنهجية لتحليل هذه الشهادات والتعامل معها من حيث التصنيف والنظر في بنيتها، وغايتها...وأخرى إعلامية مرتبطة بطريقة التعامل مع موضوع السجينات دون السقوط في السطحية والبحث عن الإثارة ...
ومهما تعدّدت زوايا النظر إلى هذا الموضوع وتباينت الآراء فإنّ اتخاذ موقف قوامه :«الإرجاء» و«الكتم» و«التهميش» ... هو حجّة على غياب الإرادة السياسية والاجتماعية كما أنّه لا يعبّر عن نضج سياسي فإلى متى سنتحاشى مواجهة الحقيقة؟.