ولعل الصعوبة الكبرى تتأتى – ونحن نحيي الذكرى السادسة عشرة لوفاة زعيم تونس ومؤسس دولتها الحديثة – من بورقيبة ذاته الذي لم يُعن كثيرا بتعريف ما معنى «البورقيبية» وحتى عندما تحدث عنها فلقد حصرها في جلّ الحالات في التكتيك السياسي القائم على «سياسة المراحل» وعلى «تقديم الأهم على المهم».. وبورقيبة رجل سياسي براغماتي يهمّه الفعل والتأثير على الواقع والتهيئة لكل هذا بخطب بيداغوجية ولم يكن يعنى بالتنظير وبإبراز الجوانب الأساسية لفكره إلا لماما...
ولكن يخطئ من يظن بأن بورقيبة لم يكن يهتدي في عمله السياسي سواء في فترة النضال الوطني أو في بناء دولة الاستقلال بتصور عام لما ينبغي أن تكون عليه تونس والتونسيون ولكنه على عكس السياسيين العقائديين يضع الفكرة في خدمة تغيير الواقع لا العكس...
لا يسعنا هنا في أسطر معدودات الإحاطة بما يمكن أن نسميه بالخطوط الكبرى للفكر البورقيبي ولكننا سنسعى للتركيز على ما كان يبدو له جوهريا فيها...
يمكن أن نجزم بأن المفهوم المركزي في فكر بورقيبة هو «الأمّة التونسية» وهذا لم يكن واضحا لديه فقط بل وكذلك عند خصومه الذين ناصبوه العداء باسم «أمة» عربية أو إسلامية أو أممية واعتبروا أن «التونسة» هي إقليمية مقيتة في خدمة «الإمبريالية» أو «الغرب»...
لقد سعى بعض تلاميذ بورقيبة إلى تبيان مفهوم «الأمة التونسية» وبعضهم استنبط في الستينات مفهوم «الشخصية التونسية» كانخراط في فلسفة الشخصانية (Le personnalisme) الذي بلوره الفيلسوف الفرنسي أمانويل مونيي أي كنوع من الأنسية (humanisme) نابعة من غير المصادر الماركسية المهيمنة آنذاك على الساحة الفكرية العالمية...
لا شك بأن بورقيبة كان متأثرا بما كان يسمى بالمناخات الفكرية للجمهورية الثالثة في فرنسا أي نوع من الليبيرالية اللائكية الاجتماعية المؤسسة على فكرة الدولة/ الأمة (l’Etat nation) والمنفتحة على الأفق الكونية للثورة الفرنسية...
ولكن عندما عاد بورقيبة إلى تونس لم يكن مسكونا بتطبيق نموذج نظري ما بل بإعطاء نفس شعبي نضالي للحركة الوطنية... حركة تقوم على الجماهير في المدن والقرى والأرياف لا فقط على النخب التقليدية أو الحديثة في العاصمة...
وهنا مفاهيم كــــ«الشعب» و«الجماهير» و»الأمة» إنما كانت بالأساس مفاهيم نضالية لتجييش عموم التونسيين في النضال ضد.....