فعلى امتداد سبعة أسابيع ،من 19 جوان إلى 10 أوت ،فتحت أبواب التسجيل لحوالي ثلاثة ملايين تونسي لم يقوموا إلى حدّ الآن بتسجيل أسمائهم في السجل الانتخابي ..
أكثر من نصف مليون تونسي التحقوا خلال هذه الأسابيع السبعة بخمسة ملايين وثلاثمائة ألف ناخبة وناخب لكي تتجاوز نسبة المسجلين من عموم التونسيين في سن الاقتراع الثلثين،وهذا كان الهدف المعلن للهيئة العليا المستقلة للانتخابات ..
مجلس الهيئة تعزز بعضو سابع أول أمس بعد أداء فاروق بوعسكر اليمين أمام رئيس الجمهورية..
ولكي يصبح موعد الانتخابات البلدية نهائيا وقطعيا لابدّ من إصدار أمر رئاسي قبل يوم الاقتراع بثلاثة أشهر على الأقل تتم فيه دعوة الناخبين .
والمسار الانتخابي سيتسارع في أواسط شهر سبتمبر المقبل إذ بعد هذا الأمر الرئاسي المرتقب سيفتح يوم 19 سبتمبر باب تقديم القائمات المترشحة على امتداد أسبوع كامل..
فالمسار الانتخابي قد انطلق فعلا ووفق الرزنامة التي حددتها الهيئة منذ شهر افريل الفارط ورغم ذلك مازالت أحزاب كثيرة تشك في احتمال انجاز الانتخابات هذه السنة وبعضها يطالب بتأجيلها لمدة ثلاثة أشهر وكان ما لم نتمكن من تحقيقه خلال كامل هذه المدة سيحصل بصفة سحرية خلال أسابيع إضافية قليلة.
في الحقيقة تخشى جل الأحزاب التونسية الانتخابات البلدية القادمة وجلها غير مهيئ لها لا في نهاية 2017 ولا حتى في نهاية 2020..
في الانتخابات التشريعية لأكتوبر 2014 وحدها خمسة أحزاب فقط تمكنت من تقديم قائماتها في الدوائر الثلاث والثلاثين والحال أننا أمام انتخابات سهلة إذ يكفي أن يقدم الحزب 217 مترشحا ليكون حاضرا في كل الدوائر..الشرط الوحيد هو التناصف العمودي،أي التناصف داخل نفس القائمة ولا وجود لشروط أخرى إذ يمكن لمن هو مسجل بولاية بنزرت أن يتقدم في قائمة لولاية القصرين..
في الانتخابات البلدية الوضع مختلف تماما إذ لدينا 350 دائرة (بلدية) ويكون العدد الجملي للمستشارين في مجالسها في حدود 7200 عضو وكل مترشح لا يمكنه أن يترشح إلا في الدائرة المسجل فيها،علاوة على شرط التناصف العمودي والأفقي هذه المرة (إذا قدم حزب 350 قائمة فيجب أن يضع 175 امرأة على رأس قائماته) وشروط وجود الشباب وأصحاب الاحتياجات الخصوصية ..كل هذه الشروط تجعل جلّ الأحزاب تتوجس من عدم قدرتها على ترشيح قائمات في كل البلديات أو على الأقل في عدد هام منها وتجعلها تتوجس أيضا من عتبة %3 في تقسيم المقاعد،فالقائمة الحزبية أو المستقلة التي لا تتجاوز عتبة %3 من الأصوات المصرح بها في دائرة معينة لا يمكنها أن تشارك في عملية اقتسام المقاعد وهذا ما يجعل من جهد أحزاب عديدة يذهب سدى حتى بعد تقديمها لقائماتها الانتخابية..ونضيف إلى كل ذلك بان التمويل العمومي لكل قائمة تتجاوز %3 من عدد الأصوات سيكون بعديا هذه المرّة لا قبليا..
وإذا علمنا بان 200 بلدية من أصل 350 عدد سكانها دون 10000 نسمة ندرك الصعوبات المضاعفة لكل الأحزاب لكي تجد من يقبل بحمل أعلامها في منافسة انتخابية معقدة للجميع..
لدينا في تونس أكثر من مائتي حزب لكن الأرجح أن يتمكن حزبان فقط (النداء والنهضة) من التواجد في كل الدوائر البلدية وان تسعى الأحزاب الوسطى (تلك التي تملك كتلا برلمانية) إلى التواجد في أهم البلديات كثافة سكانية وحركية سياسية..بينما قد تضطر بقية الأحزاب ذات الفاعلية النسبية في المشهد السياسي (وعددها لا يتجاوز عشرة أحزاب) الى حضور باهت أو تقديم قائمات لا حظوظ دنيا لها أو دعم قائمات مستقلة لا تتحرك تحت يافطتها ..
ما الذي يفسر بعد حوالي سبع سنوات من الثورة عجز جلّ الأحزاب عن الحضور المعقول في المنافسات الانتخابية المحلية ؟
يبدو لنا أن جل الأحزاب الوسطى والصغرى بقيت سجينة نمط نشاط حزبي تجاوزه الزمن..نشاط قائم على إصدار البيانات والحضور في وسائل الإعلام دون عمل ميداني يومي مع المواطنين في أحيائهم السكنية ومواطن عملهم..فأحزاب كثيرة تكاد تتلخص في بعض الايقونات التلفزية ومئات المناضلين لا غير ..
لاشك أن إقناع الناس بالانخراط في العمل السياسي أو حتى بالاهتمام به أمر صعب وان جل مواطنينا لا يثقون البتة في الأحزاب السياسية .. ولكن هذه العراقيل لا تقهر إلا بالعمل الميداني اليومي الدؤوب وبما كان يسميه الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة «الاتصال المباشر».
جلّ أحزابنا بقيت نوادي سياسية وقد تكون كثرة العرض الحزبي قد أضرت بالجميع باستثناء الحركة الإسلامية ذات الهوية الواضحة (حركة النهضة) ونداء تونس الذي أسسه الباجي قائد السبسي ليكون حزبا حاكما لا حزبا اقليا والجبهة الشعبية ذات الخلفية اليسارية الواضحة وآفاق تونس كحزب ليبرالي اجتماعي وحيد في البلاد تقريبا،والتيار الديمقراطي والحراك وحركة الشعب وبعض الأحزاب الطريفة كتيار المحبة فلا وجود لهوية للبقية تميزها بوضوح عن غيرها..وحتى الأحزاب التي ذكرنا فوضوحها الداخلي لا يعني وضوحا عند الرأي العام ..فتونس ،ككل بلاد، تحتاج إلى عرض حزبي لأربع أو خمسة مدارس كبرى..
فالعرض المحدود في العدد هو الذي يسمح بالاختيار الفعلي وهو الذي يجمع تيارات وحساسيات لا معنى لوجودها متفرقة..
فلا معنى لوجود ستة أو سبعة حوانيت حزبية فيما يعرف بالعائلة الديمقراطية الاجتماعية فهذا التذرر يقضي على الفكرة من أصلها ولا يعطيها الوضوح الكافي بالنسبة للجزء من الرأي العام الذي تستهدفه ..
نفس الشيء ،يقال للأحزاب التي تريد وراثة نداء تونس وسواء أكانت ضمن شقوقه السابقة أو خارجها..فالإكثار من العرض قد يغرق سوق السياسة ولا يسمح بظهور التمايزات الكبرى في التصورات الاقتصادية والاجتماعية وفي الاختيارات القيمية والفلسفية..
فهذا الوضع الحزبي العام لن يتغير لو اجلنا الانتخابات البلدية بثلاثة أشهر أو بسنتين..
ولا نعتقد أن الأحزاب ستراجع خططها واستراتيجيات تحالفاتها قبل الانتخابات ولكن المنطق السياسي السليم هو أن يستنتج كل حزب الدروس السياسية الضرورية من كل تجاربه الانتخابية وان يضع أمام نفسه الحقيقة المرة التالية : هل له هيكليا مقومات الحزب أم أنه يشبه ناديا أو مجموعة ضغط ليس إلا ؟
نتحدث منذ فترة عن ضرورة إعادة تشكيل حياتنا السياسية ولكن ذلك يتطلب بداية تقييما موضوعيا ومتواضعا لأداء الجميع، أما الإصرار على إبقاء بعض الهياكل وهي في حالة موت سريري ففي ذلك إضاعة للوقت وللجهد معا..