في موازين بداية معركة مكافحة الفساد الكرة في ميدان القضاء ...

إن شروع السلطة في فتح ملفات الفساد بعث روحا جديدة في الحياة العامّة ،و رفّع بسرعة في مؤشرات التفاؤل لدى المواطنين، و هو ما سيجعل مسؤولية الحكومة و بقية مؤسسات الدولة ، تتضاعف لكشف مختلف مواطن الفساد لربح المعركة ضد منظومة الفساد .
هذه المعركة تتطلّبُ

فك كل «طلاسم» هذه المنظومة المتنفّذة ، للتمكن من تفكيكها و محاسبة الضالعين و المشاركين فيها .

و لئن تمّ اللّجوء في بداية هذه المواجهة لإجراءات استئثنائية بالإعتماد على قانون الطوارئ لضروريات اقتضتها متطلبات الأمن والنظام العامين ، فإن مواصلة فتح الملفات و تتبع الجناة ، يمكن أن يتم في ظل بقية المنظومات القضائية العادية .
من هنا ستتحول الأنظار إلى القضاء الّذي سيجد الكرة في ميدانه ، دون أن يمنع ذلك من متابعة مجريات الملفات الّتي انطلقت منها قضية السيد شفيق الجراية بعد إحالتها على القضاء العسكري ،و هو تتبع خاص مؤسّس على التهم المنسوبة لهذا الرجل و لكل من سيكشف عنهم البحث من مشاركين له أو فاعلين أصليين قد تكشفهم التحقيقات.

لذلك سنكون في الأسابيع القادمة إزاء مجالين قضائيين مختلفين، الأول القضاء العسكري كما سلف بيان ذلك ،و مجال القضاء العدلي بمختلف تفرعاته و ربّما القضاء الإداري بخصوص بعض الطعون المحتملة في تجاوز السلطة .

لكن المهم بالنسبة للحقوقيين وللرأي العام هو أن تتمّ الأبحاث والتبعات في نطاق احترام مبدأ مساواة المواطنين و المواطنات في الحقوق و الواجبات الّذين هم سواء أمام القانون من غير تمييز طبق ما يقتضيه الدستور ، أي دون انتقاء أو تشفّي أو الكيل بمكيالين في مختلف الإجراءات و التتبعات ، هذا من جهة ، و من جهة أخرى ، في إطار محاكمات عادلة تُكفل فيها جميع ضمانات الدّفاع في أطوار التتبع و المحاكمة ، باعتبار أن المتهم بريء إلى تثبت إدانته .

والجدير بالملاحظة في هذا الصدد، أنّه طوال السنوات الماضية ، ما فتئ القضاء يفقد في جانب كبير منه ، ركائز أساسية فيه ، و المتمثلة في التقيد بتطبيق القانون مع الإلتزام بالحياد و التحلّي بالنزاهة ، و هو ما جعله لا يُستثنى من نفس الفساد الّذي تسرّب إلى مختلف مؤسّسات الدولة.

غير أنه بتركيز المجلس الأعلى للقضاء الضامن لإستقلال القضاء لم يعد للقضاة إمكانية التعلّل بالوصاية الّتي كانت مفروضة عليهم بآليات متعدّدة من السلطة التنفيذية ، وسيكونون و مجلسهم الجديد في امتحان صعب، لأنهم لن يتمكّنوا من تبرير عدم مباشرة لكل القضايا بما يلزم من البحث والتحرّي والإستقصاء والتفاني في كشف الحقيقة ،و هو ما يخوّله لهم قانون مجلّة الإجراءات الجزائية بما فيه الكفاية .

إنها فرصة كي يسترجع القضاء ثقة الناس المهزوزة فيه .هذا القضاء تدهورت أحواله رغم استماتة قلّة قليلة في التمسك بقيم العدل والإنصاف، ولم يكن هذا التدهور بسبب ضغوط مورست على القضاة ، و إنمّا لوجود منظومة قديمة ، ضاعف التسيب و غياب الرقابة والمحاسبة ، و عدم الإمتثال لأحكامها ،ومساعي حشرها في السياسة ، أسباب عدم الثقة فيها.

لقد سبق أن أكدنا في أكثر من مناسبة أن «مهمة في القضاء جسيمة لمقاومة الفساد المالي و الفساد الإجتماعي و صيانة الحقوق والحريات واحترام مقومات الدولة و مؤسساتها ، و للقضاة دور رئيسي فيه مع المحامين مع مساعدي القضاء وعدّة هياكل متدخلة أخرى.»
قد يكون للقضاء مبرّر في البطء في الفصل القضايا و هو ما يدعو وزارة العدل و مختلف هياكلها الإدارية ، إلى تغيير آليات المنظومة القضائية، ومواكبة التطورات والحرص على توفير الإمكانيات كي يتخلص القضاء من معوقات بنيته الأساسية ونواقص زاده البشري .

و لكن لا مبرّر للقضاء بألا يكون محايدا و عادلا و محترما للقوانين.

إن مكافحة الفساد و ضربه ليس أمرا هيّنا وهو شأن دولي تبنته منظمة الأمم المتحدة و نظمته بإتفاقية صادقت عليها تونس بغاية « .. تدعيم التدابير الرامية إلى منع الفساد و مكافحته بصورة أكفأ و أنجع واتخاذ ما يلزم من تدابير لتدعيم النزاهة و درء فرص الفساد بين أعضاء الجهاز القضائي وذلك دون مساس بإستقلالية القضاء... واتخاذ ما يلزم من تدابير تشريعية و تدابير أخرى لتجريم الأفعال المرتكبة عمدا « مهما كانت الطريقة أو الوسيلة.

لقد كشفت عدّة دراسات في تونس و منها دراسة الجمعية التونسية للمراقبين العموميين في مارس 2015 الّتي كشفت عن تنامي ظاهرة الفساد «الصغير «و أشارت إلى أن أكثر القطاعات الّتي تنخرها ظاهرة الفساد هي الأمن والديوانة والقضاء والصحة،و أصبحت «الأحزاب السياسية و النقابات و الإعلام تتبوّأُ مراكز متقدّمة في درجات الفساد»

إن الفساد لم يعد مقتصرا فقط على الصفقات العمومية و طريقة إسنادها و ضبط الحاجيات وتصنيفها ورصد المزوّدين ،و التلاعب بترتيب مطالب توزيع المقاسم و كيفية إسناد الأراضي الفلاحية و استغلال المقاطع والملك العام برّا وبحرا، ودخول سوق الشغل و الترقية والحصول على المناصب بالقفز على الأسبق ، فالرشوة والفساد عمّا كل المفاصل و كل مجالات الخدمات ولم يعودا إستثناء في المعاملات بل قاعدة فيها .

إذن المطلوب ليس إعلام العموم بما يعلمون ، بل توفير الآليات الضرورية لمجابهة الفساد والرشوة، وإعمال القوانين و تطبيقها بحزم.

لقد ظهرت بوادر إرادة سياسية جادّة تضع هذه المسألة ضمن أولوياتها و أصبحت الكرة اليوم في ميدان القضاء الّذي يعوّل عليه التونسيون، لتجسيم السياسة الجزائية دون البحث عن مبرّرات التعطيل، الّذي يفتح الباب للتجاوز، أو يبرّر وقف المعركة، وفي الحالتين يفقد القضاء هيبته وسلطته ويفقد القانون فاعليته، ويفقد العدل أسسه... وتخسر الدولة بداية معركتها...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115