وإذا ما تأكدت بصفة نهائية استقالة رئيس الهيئة ونائب رئيسها وعضو ثالث فيها فسنكون أمام أحدى أهم الأزمات السياسية التي تعيشها بلادنا منذ سنة 2011..
فالإشكال لا يكمن فقط في أزمة داخلية قد تهدد مصداقية أهم مؤسسة دستورية في البلاد بل ستتحول هذه الأزمة، وأيا كانت دوافعها الحقيقية، إلى أزمة ثقة في احتمال مواصلة مسار انتخابي فوق الشبهات .. أي ضرب العمود الفقري لتجربة الانتقال الديمقراطي في تونس بأكملها..
أول هذه الشكوك ستتسرب بداية إلى معرفة خفايا هذه الأزمة الداخلية : هل نحن فقط أمام صراع إرادات فردية داخل مجلس الهيئة أدت إلى استقالة رئيسها الذي وضع في حالة أقلية دائمة منذ فيفري الماضي أم أن هنالك أطرافا سياسية قد أرادت إضعاف رئيس الهيئة كخطوة أولى في اتجاه وضع اليد على هذه المؤسسة الدستورية المفصلية في الانتقال الديمقراطي ؟
نحن لسنا في مجال الحقيقة وحدها بل في مجال المخيال كذلك ..ويمكن أن نأتي بكل الإثباتات التي تؤكد بصفة قطعية بأنّنا أمام صراع إرادات فردية ليس إلا ومع ذلك فسيعتقد جزء من الرأي العام أن هنالك أيادي سياسية خفية قد أدارت اللعبة من الخارج وأنّها هي التي اختلقت هذه الأزمة من أجل الهيمنة على الهيئة..وبعض تصريحات شفيق صرصار الرئيس المستقيل (؟) للهيئة قد توحي بذلك عند ما يؤكد بان الخلاف أصبح يهم المبادئ الأساسية التي قام عليها الانتقال الديمقراطي وعدم استبعاده ضلوع أطراف سياسية في المسألة ..
ولكن يبقى الإشكال الأهم في كيفية تعويض هذا الشغور بعد أن يتأكّد وخاصة في الشخصية التي ستعوض شفيق صرصار على رأس الهيئة ..
هنالك في الحقيقة إشكالان أساسيان :
1 - ضرورة انتخاب ثلاث شخصيات فوق كل الشبهات بداية ورئيس جديد يحظى بأوسع احترام ممكن داخل الأحزاب السياسية وخارجها
2 - قبول هذه الشخصيات ، ولاسيما لمن سيكون الرئيس الجديد للهيئة، بهذه المهمة خاصة عندما نعلم تعقيدات شروط الترشح وإعداد الملفات والترتيب التفاضلي لكل صنف من الأصناف المخصوصة..
فمجلس نواب الشعب لن ينتخب ثلاث شخصيات بصفة اعتباطية بل ممثلا عن ثلاثة أصناف : الجامعيين والقضاة العدليين والقضاة الإداريين ..وهذا ما يزيد في تعقيد الوضعية إذ من الوارد جدّا بألاّ يكون المنتخبون من هذه الأصناف الثلاثة من الشخصيات الوازنة جدّا التي تستطيع لوحدها إعادة تجسير الثقة دون الحاجة إلى فترة اختبار ودون التعرض إلى حملات تشكيك في كفاءتها ونزاهتها ..
فالعملية مزدوجة ومعقدة : كيف نضمن ترشح شخصيات اعتبارية وازنة في هذه القطاعات الثلاثة بداية وكيف تقتنع أهم الأحزاب الممثلة في المجلس بضرورة التوافق عليها حتى لا يكون تسديد الشغور إضعافا إضافيا للهيئة بل إضافة نوعية تسهم في بناء الثقة من جديد وبصفة شبه فورية ..
وهنالك إشكال آخر يكمن في تخوف محتمل من كل مترشح جديد لوجود كتلة صلب الهيئة هي ضامنة الأغلبية داخل مجلس الهيئة قبل هذا التجديد وبعده..لاشك أن هنالك مسؤولية ملقاة على عاتق أعضاء الهيئة المتبقين لكي يكونوا متعاونين كل التعاون مع الرئيس الجديد وإلا ستعود حليمة إلى عادتها القديمة..
لو توفرت كل هذه الشروط فقد ننقذ الهيئة العليا المستقلة للانتخابات من مناخات الشك والتشكيك التي تحوم حولها وسيصبح بإمكانها استئناف العمل بصفة جدية وانجاز الانتخابات البلدية في توقيتها الحالي أو بتأخير طفيف مع ضمان مصداقية العملية الانتخابية ..
أما لو أراد الحزبان المتنفذان في مجلس نواب الشعب اليوم تزكية شخصيات موالية لأحدهما أو لكليهما فستكون الطامة السياسية الكبرى وسوف نرتهن المسار الانتخابي بأسره..
لحظة عصيبة تنتظر إرادات صادقة لتجاوزها في اتجاه دعم مكاسب البلاد بدل السعي للالتفاف عليها.