إنّه من اللافت جدّا أن يعبّر المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل عن مخاوفه من «بروز مؤشرات أزمة سياسية خطيرة» وأن يجدد تحذيره «من محاولة بعض الأطراف الركوب على هذه التحركات لغاية بث الفوضى لصالح الشبكات الفاسدة ومراكز النفوذ المشبوهة أو لتصفية الحسابات السياسوية أو لخدمة أجندات انتخابية انطبعت بازدواجية الخطاب وتعارض الممارسة مع التصريحات المعلنة »..
هنا لسنا أمام تخمينات أو إعلان مبادئ عامة بل أمام معطيات ميدانية تدل بوضوح على سعي شبكات مختلفة للاستفادة من هذه التحركات الاحتجاجية المشروعة المطالبة بالتنمية وبالتشغيل ..
لا ينبغي أن يكون المرء داهية كعمرو بن العاص لكي يدرك أن مناخ الاحتقان الاجتماعي والاحتجاج الشعبي مناسب جدّا لكل شبكات الفساد والجريمة والإرهاب ، فهي تستفيد من حشد قوات هامة من الأمن والحرس والجيش لغير ما وضعت له ..
والواضح أيضا أنّ شبكات التهريب والجريمة والإرهاب تخشى استقرار الأمن واستتبابه لأن في ذلك تشديد الخناق على أنشطتها الإجرامية الخارجة عن القانون ..
ولكن عندما نقول هذا الكلام فهذا لا يعني مطلقا طعنا في شرعية الاحتجاج الاجتماعي أو حدّا من حرية تعبيره وتشكله ولكننا نسعى لتوصيف واقع معقد تتداخل فيه عناصر شتى دون أن نغفل عن الأدوار الغريبة لبعض أحزاب الحكم والمعارضة التي تأتي الشيء ونقيضه بين مواقفها العامة وطنيا وممارساتها المحلية ..
على أنه لا ينبغي نسيان أصل القضية وهي شعور جزء هام من مواطنينا بأنهم على هامش طريق التنمية والرفاه..وأنّهم وعدوا كثيرا ولم يروا انجازات تذكر..
أمام هذه الانتظارات التي ملّت الانتظار سعى رئيس الحكومة إلى استعمال لغة العقل والصراحة.. لقد اعترف رئيس الحكومة في حواره التلفزي يوم الأحد الفارط بأن الحكومات السابقة قدّمت سيلا من الوعود تعلم مسبقا أنها غير قادرة على انجازها ..فتراكمت الوعود وتناسبت طردا مع انتظارات قوية إلى أن وصلنا إلى نقطة اللاعودة : الدولة لن تعد من هنا فصاعدا بشيء، لا تكون قادرة على انجازه وان حلّ معضلة التشغيل لن يكون إلاّ بالنمو والنمو لن يحصل إلا بالاستثمار والاستثمار لن يقع إلا بالاستقرار الأمني والاجتماعي أولا وبالإصلاحات القانونية والاجتماعية ثانيا..
تدخل الدولة الاجتماعي اليوم محدود لانّ مواردها محدودة وهو لن يتحسن ويتطور إلا مع ارتفاع نسق النمو..
هذا هو الجواب الذي سعى يوسف الشاهد إلى إيصاله للمواطنين يوم أول أمس..
والسؤال هو : هل سيصغي المحتجون لخطاب العقل هذا ؟
حسب المعهد الوطني للإحصاء هنالك حوالي ثلاثة ملايين من التونسيين تحت خط التهميش (تقنيا : الفقر متعدد الأبعاد ) ..في هؤلاء جزء من المشتغلين اليوم وجزء لهم موارد مالية منتظمة أو غير منتظمة ولكن لا الشغل في هذه الحالات ولا الموارد المالية في الحالات الأخرى ولا البطالة من باب أولى وأحرى سمحت لهؤلاء المواطنين بالحدّ الأدنى من العيش الكريم..ولذلك نراهم يقرنون بوعي بين التشغيل اللائق (وعند جلهم هو التشغيل في الوظيفة العمومية أو في المنشآت العمومية ) والتنمية وكذلك الحدّ الأدنى من جودة الحياة وان لا يعبّر المحتجون عادة عن هذا البعد الآخر ولكنه شرعي وطبيعي ..
هل سينتظر هؤلاء التونسيون قطار النمو الذي قد يأتي بعد سنوات طويلة هذا إنّ وصل لأحيائهم ومناطقهم ومحيطهم المباشر ؟ !
إنّنا أمام ما يشبه التراجيديا الإغريقية فالكل محق ولا منطقة رمادية يلتقي فيها الاثنان معا.. هذه المنطقة الرمادية هي التي غابت إلى حدّ ما في حوار رئيس الحكومة ..
الصبر خصلة ولاشك.. ولكن هؤلاء التونسيين قد عيل صبرهم منذ أمد طويل..
نحن نريد أن نعتقد بأن هنالك خطابا يمزج بين العقل والحلم بإمكانه أن يصبح المنطقة الرمادية التي تلتقي فيها انتظارات التونسيين في الشغل اللائق والتنمية وجودة الحياة مع منطق الاقتصاد الصارم..
صحيح أن السماء لن تمطر ذهبا ولا فضة ولكن بإمكاننا تحويل كل مناطق بلادنا إلى ذهب وفضّة.. بإمكاننا أن نجعل من كل منطقة في الجمهورية التونسية فضاء لخلق التميّز والتفوق في مجال من مجالات المعرفة والتكنولوجيا والصناعة والخدمات ..فلا ينبغي أن يكون الوظيف هو الحلم الوحيد لأجيال من شبابنا.. مقاومة الحيف الجهوي لن تكون إلا بتغيير مجرى تدفق الخبرات البشرية والأموال والخيرات والثروات وجودة الحياة من الشريط الساحلي إلى المناطق الداخلية..
يجب أن نغيّر نظرتنا للأشياء وأن نجعل من مواقع الفقر والبطالة والتهميش التي تعجّ بالطاقات البشرية المتقدة فرصا جديدة للنمو والازدهار..
هذه هي المنطقة المزدوجة التي يمكن أن يلتقي فيها منطق الاقتصاد البارد مع الطموح المشروع للمواطنين في العيش الكريم.. منطقة لم نبحث بعد عن آلياتها الحقيقية وإمكانياتها الضخمة..
دون ذلك سنفاقم سوء التفاهم بين مركز القرار وتونس الناجحة من جهة مع تونس التخوم من جهة أخرى والحال أن مصلحة هذه وتلك لن تكون إلا بحلم يتجاوزهما الاثنين معا..