على التفكير في قضايا تتجاوز شخصه ومحيطه المباشر..
ولكن الاحتجاجات الاجتماعية في بلادنا بلغت أرقاما قياسية بعد الثورة تجاوزت السنة الفارطة ، حسب إحصاء المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية ، عشرة آلاف احتجاج والوتيرة متصاعدة وهي تفوق ألف احتجاج جماعي في الشهر الواحد..
لاشك أن بعض هذه الاحتجاجات لا تحمل دلالات تذكر ولا مطالب يمكن الإجابة عنها ضمن سياسات عمومية جدية..
ولكن هذا الكمّ الضخم من الاحتجاج الجماعي يفيد بأن جزءا هاما من مواطنينا لم يعد يثق في الدولة ولا في وعودها ولا في كل مختلف منظومات الإنتاج العامة والخاصة لتحسين أوضاعه الفردية والجماعية..
ولو أردنا أن نلخص في كلمات معدودات المطالب الأساسية لهذه الاحتجاجات العارمة (أكثر من 30 احتجاج يومي ) لقلنا بأنها تتمثل في عنصرين أساسيين : التشغيل اللائق وظروف عيش كريمة ..
ولكن المحرك النفسي الأساسي لجلّ هذه الاحتجاجات هو شعور عدد هام من التونسيين بأنّ وضعهم الحالي هو نتيجة حيف وظلم وأنهم لا يتوفرون على نفس الفرص التي تتوفر لتونس المحظوظة والمندمجة في الدورة الاقتصادية والاجتماعية.. والحيف إنما هو نتاج لسياسات عمومية قصدية ليزداد الفقير فقرا وتهميشا ولذلك لم يعد المحتجون يثقون في وعود الدولة ووفودها الوزارية ومجالسها الرسمية وترسانة إجراءاتها المعلنة بعد كل أزمة اجتماعية..
يبدو أن حجم المطالب المنفجر في كل نقطة من نقاط الجمهورية قد جعل الحكومات المتعاقبة أمام معضلة كبرى: محاولة الاستجابة ، ما أمكن، لمطالب المحتجين ولكن أمام كل محاولة للاستجابة يرتفع سقف المطالب وتتحرك مناطق أخرى في البلاد فتفاقمت الهوة باستمرار بين كمية الاحتجاجات ونوعيتها وقدرة السلطة التنفيذية على تلبيتها فأضحت التلبية الجزئية ، متى حصلت، عنصرا إضافيا لإشعال لهيب الاحتجاجات .. وأمام هذه المفارقة أضحت جلّ السياسات العمومية غير مسموعة من قبل المحتجين بل ومتهمة في جديتها وفي صدقيتها كذلك..
وفي الحقيقة هنالك فكرة بصدد الترسخ في أذهان العديدين من مواطنينا ومفادها بان دولة الاستقلال لم تهتم خلال ستين سنة إلا بتنمية الشريط الساحلي على حساب البقية..وفي هذا الاعتقاد الكثير من الظلم لا لأنه لا وجود لفوارق تنموية متفاقمة بين الشريط الساحلي والمناطق الداخلية (ولا نستثني هنا المعتمديات الداخلية للولايات الساحلية) فهذا ما لا يمكن نفيه ولكن الخطأ في هذا الاعتقاد هو أن
الإنفاق العمومي لم يهتم إلا بالشريط الساحلي ليس إلا..
ما لا يقال بالوضوح الكافي في بلادنا هو أن التفاوت التنموي بين الشريط الساحلي والمناطق الداخلية لا يعود إلى دولة الاستقلال ولا كذلك إلى الحقبة الاستعمارية بل يعود إلى قرون طويلة إذ لم تتطور التجارة والحرف ، منذ العهد الحفصي، إلا في الشريط الساحلي ..وحول هذه الديناميكية النسبية تأسست جل البنى التحتية و الصناعة والخدمات كذلك ..ممّا عمق التفاوت وحتى عندما سعت دولة الاستقلال إلى شيء من التعديل عبر خلق أقطاب اقتصادية داخلية فإن الديناميكية في الشريط الساحلي ظلت دوما هي الأقوى وظلت هي الجاذبة والجالبة لجلّ الاستثمار الخاص والخارجي علاوة على جزء هام من الاستثمار العمومي فكانت النتيجة أن تعصير البلاد خلال دولة الاستقلال قد فاقم التفاوت الجهوي حتى في الفترات الطويلة نسبيا التي عمدت فيها الدولة – قبل الثورة – إلى نوع من التمييز الايجابي ولكن تخصيص نصف الإنفاق العمومي للمناطق الداخلية لا يعالج بالمرة هذا التفاوت لان الاستثمار العمومي مثل خلال العقود الأخيرة حوالي %40 من مجموع الاستثمار يعني أن تخصيص نصفه للجهات الداخلية يؤدي بنا فـي النهاية إلى ذهـاب ثلاثـة أربـاع الاستثمـار الإجمالي (عمومـي وخـاص وأجنبي ) إلى الشريـط الساحلي في كل الاحوال ..
هذه هي حقيقة التفاوت الجهوي عندما ننظر إلى مؤشراته الكبرى وهو تفاوت لن نقاومه إلا متى توجه الاستثمار الخاص والأجنبي بصفة هامة إلى هذه المناطق وهذا لم يحصل بعد لأسباب واضحة إذ الخواص لا يذهبون إلا حيث توجد كل مناخات الإدارة والتجهيزات والسوق والتصدير .. أي دوما في الشريط الساحلي ..
السؤال الوحيد الجدي اليوم كيف نقلب هذه المعادلة ؟ كيف نجعل من الجهات الداخلية تستقطب نصف المبلغ الإجمالي للاستثمار على الأقل وعلى امتداد عقود من الزمن ؟ فدون ذلك يبقى التمييز الايجابي مجرد شعار في الدستور ويبقى جهد الدولة حتى عندما تعمد إليه بصفة واضحة دون النتائج المرجوة من قبل المواطنين.
النتيجة الحاصلة اليوم هي أن كل مراكز الامتياز اقتصاديا وإداريا وخدماتيا وصحيا وتربويا وترفيهيا وثقافيا هي موجودة في الشريط الساحلي بل وجلّها منحصر في ولايات ثلاث فقط : تونس وأريانة وبن عروس وفي مستوى ثان نابل وسوسة والمنستير وصفاقس لا غير !..
كيف نغيّر بصفة جدية هذا الانخرام ؟ وكيف نجعل منه فرصة جديدة للاستثمار ولخلق الثروة ومواطن الشغل وجودة الحياة ؟
الحلّ الوحيد هو غرس مراكز الامتياز داخل كل الولايات الداخلية .. اي دون أن ننقص شيئا من تميّز الشريط الساحلي نخلق مراكز تفوق وتميّز في الولايات الداخلية .. بعبارة أخرى دون خلق مراكز الامتياز في هذه المناطق يبقى التمييز الايجابي شعارا لا مضمون له..
يمكن أن نأخذ على ذلك بعض الأمثلة :
• لدينا في تونس ثلاثة أقطاب جامعية كبرى : تونس وسوسة /المنستير وصفاقس وفي البقية هنالك شبه معاهد تدرس التعليم العالي بإطار تربوي في مجمله دون ما يوجد في هذه الأقطاب الثلاثة الكبيرة..
بالإمكان اليوم أن نبعث مدينتين جامعيتين بما لا يقل عن ثلاثين أو أربعين ألف طالب توجد فيها كل المرافق العامة من إقامة للطلبة وللأساتذة وللزوار ومن قاعات محاضرات وسينما ومسارح ومكتبات ومن تخصصات دراسية للممتازين كان تكون كل الدراسات الفلاحية في إحدى المدينتين وكذلك الدراسات الهندسية العليا أو الطبية أو غيرها .. فالفكرة هي أن تختص هاتان المدينتان ببعض شعب الامتياز وبأساتذة الامتياز أيضا..
• مراكز للتكنولوجيا الحديثة دراسيا وصناعيا تستقطب أهم الكفاءات الوطنية
• مدن ثقافية جديدة مخصصة لصناعات الكتاب والموسيقى والسينما
• أقطاب صحية تختص في بعض الأمراض كالسرطان أو الأعصاب
• محطات كبرى لتوليد الطاقة الشمسية والطاقة الهوائية في الولايات الجنوبية
• محطات كبرى لتحلية مياه البحر ..
الفكرة الأساسية وراء كل هذا هو تحويل الشريان الاقتصادي والعلمي والتربوي والثقافي والبشري من الشريط الساحلي إلى المناطق الداخلية وهذا يتطلب استثمارات ضخمة لا تقدر عليها ميزانية الدولة لوحدها بل ينبغي أن ينخرط فيها القطاع الخاص المحلي والأجنبي ضمن عقود شراكة حتى نغيّر بصفة جوهرية في نسق نموّ هذه الجهات الداخلية ..
هذه الرؤية تنقص كل الحكومات المتعاقبة إذ اكتفت كلّها بمحاولة الاستجابة للطلبات الآنية المباشرة ولم تؤسس لحلم مشترك يغيّر وجه تونس ويعطي أملا قويا لكل أبنائها..
إنها ثورة ثانية نؤسس بها لتونس يتقاسم فيها أبناؤها الرقي والازدهار.. قد يستغرق منا هذا جيلا كاملا.. ولكن تنفيذ هذا الحلم ينبغي أن يبدأ اليوم..