في البداية هنالك في كل بلاد العالم صعوبة في تحديد هوية هذا «الوسط» السياسي المتموقع بين يسار جذوره اشتراكية وحتى شيوعية ويمين يدافع عن النظام الرأسمالي والمحافظة الاجتماعية ولكن بقدر اقتراب اليسار واليمين من الوسط بقدر تكاثر خطوط التماس حتى أضحى في بعض البلدان الغربية مصطلح وسط كرفض لليمين واليسار معا لا كتوسط بينهما..
ولكن يبقى التصنيف في الدول الغربية يسيرا إلى حد ما إذ محاور التباين واضحة إلى حدّ ما : المنظومة الاقتصادية والاجتماعية من جهة والمنظومة القيمية المجتمعية من جهة أخرى. أمّا في بلادنا فخطوط الانقسام متعددة ومتداخلة، الموقف من مكانة الدين في المجتمع وفي الدولة ..الموقف من الهوية الجامعة : تونسية أم عربية أم إسلامية .. الموقف من الثورة .. وعادة ما تحتل البرامج الاقتصادية الفعلية مؤخرة الترتيب في التمييز بين مختلف العروض السياسية..
ولعلّ التعريف الإجرائي الأولّ للوسط السياسي في تونس هو ذلك الطيف الواسع من الأحزاب والشخصيات الواقعة بين النهضة والتيارات الشعبوية من جهة والجبهة الشعبية من جهة أخرى..
وكل هذه الأطراف تعتقد أن حزب نداء تونس قد تمكن في الانتخابات العامة لسنة 2014 من الاستحواذ على كامل مجال «الوسط» السياسي بفضل «التصويت المفيد» ..
ونفس هذه الجهات تعتبر أن هذا الفضاء السياسي أصبح يتيما اليوم بحكم «تحالف الشيخين» من جهة والانقسامات المتتالية ومأزق التوريث الذي سقط فيه الحزب الفائز من جهة ثانية ..
ولكن الإشكال هو أن كل هذه الأحزاب والشخصيات تريد تجاوز خيبة الأمل التي جدت بعد انتخابات 2014 بعقلية ما قبل انتخابات 2011 : تذرر إلى الأقصى وبروز «القيادات المنقذة» على حساب إعطاء هوية سياسية وفكرية موحدة لهذا «الوسط» المفترض ..
الغريب هو أن التقييم السياسي الذي أدى إلى ظهور عروض سياسية جديدة في هذا الفضاء الوسطي : انهيار نداء تونس وتفتت وحدته لا يؤدي دوره إلى عرض موحد للتونسيين بل العكس هو الذي حصل بالضبط.. فما يقود جلّ هذه المبادرات هو أن تفرض نفسها في الانتخابات المحلية القادمة كالحزب أو الطّرف الوريث الجدي لنداء 2014.. وأنّ التحالف الضروري ،سياسيا، بين مختلف هذه المكونات قد يحصل بعد التعرف على الأحجام الانتخابية الفعلية لكل طرف.. لو أغمضنا أعيننا لخلنا أنفسنا قبيل أشهر من انتخابات أكتوبر 2011 حيث رفضت بعض قيادات الأحزاب الوسطية كل تحالف قبل الانتخابات في انتظار أن يقيس كل طرف وزنه الحقيقي..
ما يخشاه ناخبو هذا الوسط الافتراضي هو أن نفس الإصرار قد يؤدي إلى نفس النتائج..
وبالطبع سيكون من الصعب جدّا أن يلتحق المنهزمون في الانتخابات البلدية بالحزب المنتصر -على افتراض انتصار واضح وجلي لحزب ما- لان كل هذه المشاريع الحزبية الواقعية أو الافتراضية لا تفكر إلا في ترشيح زعيمها لرئاسية 2019..
فعلا إنّ تجارب الآخرين لا تفيد إلاّ.. الآخرين..