وقل وندر أن أحدثنا لجنة تمكنا بفضلها من تعميق التفكير في مسألة ما وفي ايجاد حلول جديدة غير اعتيادية..
نفس هذا الشغف باحداث اللجان عاد بقوة هذه الأسابيع الأخيرة بمناسبة مناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2017.. فهنالك من يدعو لبعث لجنة للتدقيق في الوضعية الحقيقية للمالية العمومية وكأنه يقول لنا بأن أرقام الدولة مشكوك فيها... وهنالك من يدعو للجنة تضم «كل الأطراف» لكي «نتفق» على كل الملفات الاقتصادية والاجتماعية وتكون ميزانية 2018 ولاحقاتها نتيجة لأعمال هذه «اللجنة» التوافقية..
قد يكون في الأمر بعض الوجاهة فبعض الأزمات تستدعي وقفة للتفكير ومهلة لاتخاذ القرار الصائب.. و «اللجنة» ان هي في نهاية الأمر الا شكل من أشكال التفكير الجماعي والاعداد لطبخ القرارات الضرورية لمواجهة مشكلة ما..
ولكن ما هو غير طبيعي أن يجيبك عدة سياسيين وبعض الخبراء عن سؤال يتعلق بموقف المعني بالأمر من مسألة دقيقة ما بهذا الجواب الفضفاض «يلزم نعملو لجنة» والحال هنا أننا أمام أسئلة دقيقة كـ« ما هو رأيك في تأجيل الزيادة في أجور الموظفين من عدمه؟» و «ما هو رأيك في زيادة نسبة الضريبة على الشركات بـ 7٫5 ٪ من عدمه؟»..
المفروض أنه للسياسيين أجوبة دقيقة على هذه الأسئلة وكذلك آراء بديلة ملموسة و مرقمة ان هم رفضوا هذا الاقتراح الحكومي.. ولكن عادة ما يلجأ السياسيون الى مداخل أخرى من صنف « هذه الحكومة لا تملك رؤية» أو «المنهجية المتبعة خاطئة» أو «قرارات جزئية لا تغير شيئا يذكر»...
والحال أنه من حق المواطنين على أهل السياسة أن تكون لديهم أفكار ومقترحات عملية ملموسة لمشاكل البلاد وأزماتها والا استوت الأمور وأضحى نقاش المقاهي في ذات قيمة نقاش السياسيين ولكن يبدو أنه ثمّة دوافع مختلفة وراء هذا التذرّع المتكرر باللجان وبالنقاش وبمواصلة النقاش...
هنالك بعض السياسيين موافقون في قرارة أنفسهم على فلسفة التمشي الحكومي اجمالا، أي التحكم في النفقات وأساسا في تضخم كتلة الأجور والبحث عن موارد مالية إضافية بالاعتماد على آلية الجباية... ولكن هؤلاء السياسيين لا يريدون الاعتراف بهذا علنا بداية لأن هذه القرارات غير شعبية وهم لا يريدون تحمل تبعاتها وثانيا لأنهم يرون في أنفسهم جدارة لم يُعترف بها وأنهم هم الأقدر، اليوم، على تسيير البلاد... وما داموا خارج الصورة فلا أقل من التشكيك فيما يقع الآن في انتظار أيام أخر...
هنالك سياسيون آخرون بارعون في الخطابة وفي الصراعات العقائدية التلفزية ومعرفتهم بالاقتصاد ومقتضياته لا تتجاوز ما يتقن عامتنا من اللغة الصينية... لذلك ترونهم يحولون كل نقاش في الاقتصاد أو في اجراء مالي معين إلى حلبة صراع عقائدية دنكيشوتية والهدف من وراء ذلك هو تغطية قصور الفهم وإن أنت ألححت عليهم بالسؤال يقولون لك: «ينبغي أن نحدث لجنة لنتناقش في هذه المواضيع»..
هنالك صنف ثالث من السياسيين لديهم تصور واضح لما ينبغي أن تكون عليه السياسات الاقتصادية في البلاد ولكنهم يعتبرون أنه لا وجود لتوافق أدنى حولها لذا تراهم يدعون لاحداث أطر للنقاش العام عسانا نخرج بوفاق هام حول الخطوط العريضة لسياسة اقتصادية واجتماعية موحدة...
هذا الصنف هو الأكثر جدية ونزاهة ولكن السؤال المطروح هو التالي: هل يمكن أن يحصل في بلادنا توافق حول السياسة الاقتصادية والاجتماعية للحكومة؟
لنأخذ مثال واحدا: كيف سنتصرف في المؤسسات العمومية غير الاستراتيجية؟ هل نبقيها مطلقا في القطاع العام مع إصلاح الخلل داخل حوكمتها أم ينبغي على الدولة إصلاح هذه المؤسسات ثم التفريط فيها للخواص؟
هذا سؤال هام ولن يحصل حوله توافق أدنى بين طرفي الانتاج الرئيسيين: اتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية... ويمكن أن نحدث للغرض آلاف اللجان فالنتيجة معروفة سلفا، للمنظمتين الاجتماعيتين المذكورتين مواقف متناقضة في الملف والحد الأدنى المشترك بينهما - ان وجد - لا يسمح بالمرة بانتهاج سياسة حكومية ذات جدوى..
نفس الأمر يصدق في ملف التقاعد والتغطية الصحية ودعم المواد الأساسية وحجم الوظيفة العمومية عددا وكتلة أجور..
ولا غرابة في كل هذا فنحن أمام أطراف اجتماعية يجمعها الوطن والدفاع عن حرمته وعن نمط حياته ولكن يفرق بينهما تصور الحلول المثلى لانعاش الاقتصاد وللدور الاجتماعي للدولة...
وما يصح على أطراف الانتاج يصح - نظريا على الأقل - على الأحزاب السياسية اذ ما معنى التوافق حول السياسات الاقتصادية والاجتماعية؟ لهذا التوافق المزعوم معنى واحد: السكون والجمود والمحافظة على طاحونة الشيء المعتاد لا غير..
لاشك أن بلادنا بحاجة الى توافق سياسي ومجتمعي في حدوده الدنيا وهو توافق حول القيم الجماعية وقواعد العيش المشترك والتجند لحماية الوطن ازاء الاخطار الخارجية والداخلية... كما لا بد من التوافق على حد أدنى للاصلاحات الكبرى التي يجب أن نخوضها سويا كاصلاح المؤسسة التربوية والمنظومة الصحية... ورؤية عامة حول العدالة الجبائية ولكن التوافق في حدوده الدنيا لا يصلح أن يكون برنامجا لحكومة ما.. ولهذا توجد انتخابات عامة ليختار المواطنون تصورا بعينه ومقاربة اصلاحية على حساب الأخرى.. ولكن هذا لم يقع في انتخابات 2014 حيث طغت عليها مسائل الهوية والاعتبارات الاديولوجية العامة عند جل الأطراف...
بلادنا بحاجة ولا ريب لعدة لجان تحدث لا لتأطير النقاش العام بل لتعميق التفكير حول مشاريع الاصلاح وعلى الحكومة - هذه أو غيرها - أن تتحمل مسؤوليتها كاملة في اختيار السياسات التي تراها مناسبة وان تحسن تقدير موازين القوى السياسية والاجتماعية في البلاد ثم تسعى لتحقيق سياسة متناسقة سوف يحكم عليها الشعب في الانتخابات العامة المقبلة...
هذا هو المنطق السليم الذي غاب على كثير من سياسيينا.. وهذا المنطق لا ينفي الحوار الاجتماعي ولا كذلك الحوار الفكري و السياسي ولكن ارتهان عمل السلطة التنفيذية باعمال لجان حوارية هو الخطأ بعينه لأن حياة الناس لا تتوقف ولا يمكن أن نطلب من حكومة حازت على ثقة أغلبية نواب الشعب بأن تكون حكومة تصريف أعمال في انتظار النتائج المحتملة لهذه اللجان...
فلنعارض مقترحات هذه الحكومة أو لنؤيدها أو لنثريها بمقترحات بديلة بدلا من التخفي وراء جلباب لجان تخفي معظمها الخوف من الإصداع بالرأي وعدم تحمل تبعاته...
فإذا كان البيض حلاّ وقتيا قد ينقذ بعض المأكولات الفاشلة فإن اللجان عادة ما تُعَوّم المسائل وتبعدنا عن نهج الاصلاح الجدي والجريء...