نفط واستراتيجيا: كيف تشكّل فنزويلا مركز صراع عالمي؟

تنكشف اليوم أبعاد صراع عالمي معقد بين

القوتين المتنافستين على قيادة العالم، الولايات المتحدة الأمريكية والصين، فيما بات يشبه لعب «غو» التي ينتصر فيها من يحسن التخطيط طويل الأمد، وهذا ما تتميز به الصين التي استهلم أباطرتها سابقًا وقادتها اليوم من اللعبة عناصر فرادتها في التفكير والتخطيط واتخاذ القرارات وبناء استراتيجيات، لبسط نفوذها الاقتصادي والسياسي بذكاء، وتحويل الأزمات إلى أدوات استراتيجية تعزز مصالحها كما يحدث اليوم مع أزمة فنزويلا.

ولعلنا اليوم شهود عيان على كيفية توظيف الصين تقاليدها من لعبة «غو» والتي يصطلح عليها باسم لعبة Weiqi لبلوغ سدة العالم وزعامته دون الانزلاق إلى صراع عسكري مباشر، مستفيدة من تراكم خبرتها في إدارة النفوذ على مدى عقود، لتوسيع مجال تأثيرها، وانتظار الوقت المناسب وفق استراتيجية الرئيس الصيني الأسبق دنغ شياو بينغ، الذي قاد سياسة الإصلاح والانفتاح في نهاية ثمانينيات القرن الماضي.

فبعد عقود طويلة طبقت فيها الصين قواعد دنغ شياو وأخفت قدراتها وتجنب الصدام مع القوى الكبرى والعمل على توزيع انتشارها ومراكز القوة والنفوذ وفق استراتيجية يعتمدها اللاعبون المحترفون في لعبة «غو/ ويكيكي» تدمج بين استراتيجية Moyo وSabaki، أي استراتيجية المجالات والحركة المرنة، التي تدمج بين الانتشار الواسع في عدد من نقاط التأثير على كامل مساحة العالم من أجل توسيع السيطرة تدريجيًا عليه ومحاصرة خصمها، والذي هو الولايات المتحدة الأمريكية، مع مرونة الحركة والقدرة على التأقلم مع التطورات على لوحة اللعبة التي يقابلها اليوم خارطة العالم.

هذه الاستراتيجية التي مكنت الصين من إنشاء ميدان نفوذ ديناميكي في أمريكا الجنوبية قابل للتطور مع تطور اللوحة، بلغت اليوم مرحلة حاسمة بعد تصعيد إدارة ترامب تجاه فنزويلا وإعلان الحصار الشامل عليها والتلويح بالغزو البري لها وحشد الجنود والآليات العسكرية ومصادرة سفن شحن النفط وغيرها من الخطوات التي أقدمت عليها واشنطن في إطار استراتيجيتها الجديدة للأمن القومي التي أعادت إحياء مبدأ مونرو لمجابهة التمدد الصيني في أمريكا الجنوبية.

هذا الصراع الذي بات يشبه نقلات ووضع الأحجار على لوح لعبة «غو» هو ما جعل من فنزويلا، الدولة الغنية بالنفط التي تصدر 55 ٪ من صادراتها النفطية إلى الصين، ساحة اختبار لقدرة القوتين على إدارة النفوذ الدولي دون الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة. فما يحدث في كاراكاس اليوم يعكس بوضوح أن المنافسة بين بكين وواشنطن ليست محصورة في بحر الصين الجنوبي أو قضية تايوان، بل امتدت لتشمل مناطق بعيدة جغرافيًا ولكن استراتيجية اقتصاديًا وسياسيًا، حيث تتقاطع الموارد الحيوية مع المصالح.

فنزويلا التي تحظى بحصة تتراوح بين 2 و4 ٪ من سوق النفط الصيني، لا تكمن أهميتها بالنسبة لبكين فيما تشتريه منها من نفط، بل في ما تمثله الدولة اللاتينية من كونها أكبر احتياطي نفط مؤكد في العالم، بما يزيد على 300 مليار برميل، وهو ما يمثل حوالي 18 ٪ من الاحتياطيات العالمية.

فهذا يجعل فنزويلا هدفًا استراتيجيًا لكلا القوتين، لا فقط من أجل تأمين أمن الطاقة وحماية أسواقها، بل لضمان تفوق استراتيجي وانتشار يسمح بمحاصر المنافس. فبالنسبة للصين، فإن النفط الفنزويلي ليس مجرد سلعة، بل أداة طويلة الأمد لضمان استقرار واردات الطاقة، التي تشكل حوالي 70 ٪ من الاستهلاك الوطني، وهذا يشرح لماذا استثمرت أكثر من 50 مليار دولار على البنية التحتية خلال العقود القليلة الماضية، ضمن استراتيجية مبنية على الدمج بين المصالح الاقتصادية والسياسية، والتي تعتمد على بناء نفوذ تدريجي في أمريكا الجنوبية بما يسمح لها لاحقًا بغلق المساحات على خصمها الأمريكي.

أما بالنسبة للولايات المتحدة، فإنها تعتبرها جزءًا من نفوذها التقليدي في أمريكا اللاتينية التي تعتبرها واشنطن تاريخيًا «حوضها الخلفي»، الذي شهد تمدد النفوذ الصيني وتوسعًا إلى حدودها الجنوبية مع المكسيك، وهو ما بات يمثل تهديدًا استراتيجيًا لا يمكن السماح به. ويبدو أن التحرك ضد فنزويلا هو لاستهداف ما تعتبره نقطة ارتكاز الاستراتيجية الصينية في المنطقة وأهم حليف موثوق لها، بالإضافة إلى السيطرة على أهم مخزون للطاقة الأحفورية في العالم بشكل مباشر، بعد فشل سياسات العقوبات التي تجاهلتها الصين، من خلال شراء النفط الذي أظهر قدرتها على تحدي النفوذ الأمريكي مع تجنب المواجهة العسكرية المباشرة في مرحلة مبكرة من الأزمة، التي دخلت اليوم مرحلة جديدة أقدمت فيها إدارة ترامب على تصعيد عسكري واقتصادي من بين أوجهه احتجاز ناقلات نفطية متجهة إلى آسيا بذريعة مكافحة تهريب المخدرات، وتعزيز التواجد العسكري في البحر الكاريبي: حاملة طائرات، فرقاطات، آلاف الجنود، وطائرات F‑35 وقاذفات استراتيجية B‑52.

هذه الخطوات الأمريكية التي تمثل إشارة واضحة لإبراز القوة والجاهزية، هي الرد على النفوذ الصيني واختبار لحدوده، والأهم توجيه رسالة مفادها أن أي توسع صيني في هذه المنطقة لن يكون بلا رد فعل، والرهان على أن تحافظ الصين على سياسات تجنب المواجهة المباشرة، وهو ما التزمت به الصين إلى حدود الساعة رغم تصريحات المتحدث باسم خارجيتها وما حمله من انتقادات صريحة ومباشرة لأمريكا واتهامها بانتهاك القانون الدولي، لكن دون الإعلان عن إجراءات محددة.

هذه الخطوة الصينية التي قد يُفهم منها التزام بنهجها الراهن في تجنب أي صراع مباشر مع أمريكا، لا تعني إطلاقًا أن الصين لن تتحرك اليوم أو مستقبلًا، إذ بالنسبة لها، عدم الرد على الخطوة الأمريكية باستراتيجية مغايرة يعني أنها تخاطر بانهيار التوازن الاستراتيجي في المنطقة، وفقدان مراكز نفوذها تدريجيًا. لكنها تفضل التحرك وفق خطوات مدروسة تعود عليها بالنفع، خاصة وأن الأزمة الفنزويلية اليوم تكشف هشاشة النظام الدولي أمام الأزمات الإقليمية، واقتراب الصراع الخفي بين الصين وأمريكا من بلوغ المواجهة بخطوة إضافية.

فمن الجلي اليوم أن القوتين، اللتين يختلف عقلهما الاستراتيجي بشكل كلي، العقل الأمريكي المباشر الذي يعتمد الردع لضمان الهيمنة والنفوذ، والعقل الصيني الذي يعتمد التخطيط طويل الأمد والصبر والتمدد والسيطرة على المساحات، تخوضان جولة جديدة في معركة تريدها واشنطن سريعة ومباشرة، في حين تدفعها الصين إلى أن تكون حرب استنزاف طويلة الأمد لإنهاك خصمها وتعزيز انتشارها وتفوقها

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115