حين تستدعي الموالاة الشارع: قراءة في مسيرة الأربعاء ومعناها السياسي

شهد شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة التونسية

يوم أمس مسيرة لأنصار السلطة ترفع شعارات السيادة الوطنية ودعم الرئيس، حدث ليس بالعابر في ظل السياق التونسي الراهن، بما من شأنه أن ينزع عن المسيرة صفتها كفعل دعم بسيط أو عفوي. فكل التفاصيل تفيد بعكس ذلك، وتعلن أن ما جرى يوم الأربعاء يحمل دلالات أعمق تكشف عن ارتباك وبحث عن صورة بديلة للواقع.

مسيرة أمس، قراءتها يجب أن تتجاوز عدد المشاركين وشعاراتهم، إلى ما تعكسه اللحظة نفسها من توتر اجتماعي، وتآكل في الشعبية، وارتباك في السياسة. فالشارع بالنسبة للسلطة ليس تفصيلا، بل هو مؤشر عن اللحظة التي تلجأ فيها السلطة ومحيطها وأنصارها إليه للبحث عن صورة السلطة القوية والشعبية.

في تفاصيل الصورة المركبة، هناك جزء يجب الانتباه إليه كشرط أساسي لتفكيك المشهد وفهمه، وهو أنه على امتداد الأسابيع الأخيرة عرف الشارع التونسي موجات احتجاج متفرقة. لم تكن موحدة، ولم تكن منظمة دائما، لكنها كانت واضحة في دلالتها. بعضها دعت إليه المعارضة ومنظمات وطنية، وبعضها الآخر كان عفويا دفعت إليه مطالب محلية مباشرة، كالتلوث البيئي، والاحتجاج على البطالة، وعلى غلاء المعيشة، وعلى انسداد الأفق، في احتجاجات مطلبية في ظاهرها، لكنها سياسية في عمقها، لأنها عبّرت في جوهرها عن فقدان ثقة جزء من الشارع في السلطة.

هذه الاحتجاجات مجتمعة كشفت توترا اجتماعيا متراكما، توترا لا يجد قنوات سياسية لامتصاصه، ولا حزاما سياسيا للسلطة فاعلا، ولا وسائط اجتماعية قوية، ولا خطاباً رسمياً أقنع جزءاً من التونسيين، الذين يرتفع منسوب توترهم، وهو ما يكشف أننا في بداية مرحلة تآكل شعبية السلطة.

في هذا السياق كانت مسيرة يوم أمس، التي حرص الداعون إليها على التأكيد أنها ليست ردا على احتجاج بعينه أو طرف محدد، بل هي ردهم على خطر التدخل الأجنبي وانتصارهم للسيادة الوطنية ودفاعا عنها. أي إنها، وبشكل ما، تفاعل أنصار السلطة مع مناخ عام برمته، سمته الأساسية أن هناك شعورا داخليا لديهم بأن الشارع لم يعد مضمونا، بل إن الصمت الذي يهيمن على جزء واسع منه ليس دعما ولا رضا، بل هو مؤشر على العزوف والغضب.

هذا الانطباع الذي ساد لدى أنصار السلطة ومحيطها يكشف عن إدراك سياسي يقوم على أن ما عاشته البلاد خلال شهورها الأخيرة من تطورات انعكس سلباً على شعبية السلطة، وهيّأ لمناخ من التحركات الاحتجاجية، يفرض الحاجة الملحة للنزول إلى الشارع في محاولة لكسر الحلقة وملء الفراغ الرمزي في الساحة السياسية.

وهنا يكون اختيار شارع الحبيب بورقيبة من قبل أنصار السلطة لتنظيم مسيرة دعم رسالة بحد ذاته. فهذا الشارع، الذي بات يمثل ذاكرة سياسية وفضاءً احتجاجياً، تم اختياره ليكون فضاءً لمسيرة دعم وموالاة، في سعي لإعادة كتابة الرمزية والقول إن الشارع مع السلطة. خاصة وأن أعلى هرم السلطة زار فجر يوم أمس الشارع، والتقى في ساعات الصباح الباكر بعدد من الأنصار، وهو ما كشفه عدد منهم بتدوينات وصور نُشرت على منصات التواصل الاجتماعي.

وهو ما يعزز الاعتقاد بأن السلطة وأنصارها نظروا إلى مسيرة أمس على أنها عملية إعادة صياغة للرمزية والتحكم في السرد والمجال العمومي. لكن هذا لا يتم بقرار أو بعدد الحاضرين في المسيرة، بل بالمعنى الذي أُنتج. وهنا تكون الشعارات والمطالب هي من تنتج المعنى وتعلنه. غير أن شعارات المسيرة كانت عامة في أغلبها، فضفاضة، تدور حول الدعم والتأييد والمناشدة، دون أي تصور أو مشروع، مما جعلها أقرب إلى تبرير للأوضاع والخيارات من كونها إنتاجا للمعنى السياسي.

وهنا تظهر المفارقة بين الشارع المحتج والشارع الموالي، فحين يغضب الشارع يكون واضحا. يصرخ بأنه يريد شيئا محدد. أما الشارع الموالي فلا يغضب، بل يكتفي بالإشارة إلى الولاء.

وهذا الفارق مهم، لأنه يكشف عن رهانات الداعين للمسيرة، والتي في عمقها تراهن على الصورة التي تريدها أن تروّج في الداخل والخارج، لتقديم السلطة في موضع قوة ومسنودة شعبيا. وهنا يصبح الحشد هو المعنى والدليل السياسي. لكن المعنى السياسي لا ينتج ولا يقاس بالصور فقط، بل بما تحمله الصورة من تفاصيل تتعلق باللحظة.

والتفاصيل تكشف أن محيط السلطة أكثر قلقا من رأسها، لأنه يشعر بتراجع القدرة على الدفاع عن السلطة والترويج لها، وبضعف الحجج والخطاب، ولم يعد بيده غير اللجوء إلى الشارع، لا بصفته فضاء ومجالا عمومياً، بل كـ«ديكور للشرعية». وهذا سلوك معروف في تجارب عديدة، وفي تجربة الانتقال الديمقراطي التونسي ذاته، حينما ضعفت المؤسسات استُدعي الشارع وحُشد الأنصار من أجل مشهدية بديلة لحقيقة تآكل الشعبية.

هذه المشهدية التي عرفها التونسيون قبل سنوات وخبروها جيدا، قبل أن يصدر حكمهم عليها بأنها لا تعكس مطالبهم ومعاناتهم، مما عمّق من قبل شعورهم بالقطيعة عن عالم السلطة. وتلك هي خطورة اللحظة ونقطة تكثفها، التي تقول صراحة إن السلطة القوية لا تحتاج إلى إثبات وجودها في الشارع.

فوجودها يدرك في الاستقرار الذي تحدثه، وفي نجاعة الخيارات السياسية، والقدرة على إنتاج المعنى والثروة، وفتح الأفق لمختلف الأفراد. أما نزولها إلى الشارع فهو أشبه باعتراف ضمني بأنها لم تحقق ما سبق. وبهذا المعنى، فإن مسيرة الدعم والموالاة ليست علامة على قوة السلطة بقدر ما هي علامة على أزمة ثقة، يعالجها محيط السلطة بمحاولة لسد الفراغ السياسي.

لكن الفراغ لا يملأ بالمشهدية، بل بالمعنى

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115