نهاية الانتقال الديمقراطي !

لقد مثل 25 جويلية 2021 بداية نهاية الانتقال الديمقراطي

وأراد أن يكون تدشينا لمرحلة جديدة أطلق عليها مرسوم 117 في سبتمبر 2021 إسم «الديمقراطية الحقيقية» ولكن بين رغبة إنهاء عشرية الانتقال الديمقراطي والانهاء الفعلي لها مرت أكثر من أربعة سنوات شاهدنا فيها الشد والجذب بين قوى عدة بعضها يريد تعميق الانتقال الديمقراطي بتجاوز ما شابه من نقائص ومن انحرافات وبعضها يمني النفس بـ «ديمقراطية البناء القاعدي».. «ديمقراطية» بلا أجسام وسيطة ولا تعددية سياسية، وهذا كله تحت أنظار الدولة وأجهزتها الصلبة والرخوة في آن واحد والتي استخلصت دروسها الخاصة من الانهيار السريع لنظام بن علي...

إذا انطلق مسار بداية انهيار الانتقال الديمقراطي ذات 25 جويلية 2021 فإن الأحكام الاستئنافية الصادرة فجر يوم الجمعة الفارط قد مثلت ولا شك الأسفين الأخير الذي أغلق تجربة السنوات العشرة الأولى للثورة بحلوها ومرّها وانجازاتها العظيمة وخيباتها التي نفّرت منها الكثيرين...

لن نعود الى أطوار قضية ما يعرف بـ«التآمر 1» من التحقيق الى الابتدائي الى الاستئناف فقد أتى على أهمها البيان الأخير لعمادة المحامين ... محاكمة غابت فيها الشروط الدنيا لحق الدفاع وتعتيم كامل على عناصر الادانة وانتهت بأحكام ثقيلة قلّ وان شهدت بلادنا نظيرا لها حتى في أحلك فترات الاستبداد...

ولكن نهاية الانتقال الديمقراطي لا تتعلق بكل ما شاب هذه القضية منذ انطلاقتها بل بالشخصيات التي تمت ادانتها فإذا تصفحنا قائمة الذين شملتهم أحكام قضائية سواء لمن كانوا في حالة ايقاف منذ حوالي ثلاث سنين أو من كانوا في حالة سراح أو اعتبروا في حالة فرار فسنجد من بينهم ودون ترتيب خيام التركي ونور الدين البحيري وعصام الشابي وجوهر بن مبارك وغازي الشواشي ورضا بالحاج وعبد الحميد الجلاصي وأحمد نجيب الشابي وشيماء عيسى وعياشي الهمامي ومحمد الحامدي ورضا شرف الدين والصحبي عتيق ومحمد الفرجاني ومصطفى كمال النابلي وعبد الرؤوف خلف الله وعبد المجيد الزار وتسنيم الخريجي ونادية عكاشة وبشرى بالحاج حميدة...

تمثل هذه الأسماء أكثر من نصف المدانين وهي كلها قد لعبت أدوارا هامة وأحيانا مهمة للغاية في عشرية الانتقال الديمقراطي على ما بينها من خلافات وخصومات وأحيانا عداوات جمة ولكنها تمثل بدرجات متفاوتة وجوها بارزة لما يحلو لبعضهم بتسميتها بـ«العشرية السوداء».

لقد مارس كل هؤلاء أدوارا مهمة في الحكم أو المعارضة أو في الاثنين معا وفق تداول أغلبيات مختلفة على السلطة خلال العشرية الأولى للثورة...

ما ستحفضه الذاكرة بغض النظر عن كل التفاصيل والجزئيات أن الدولة التونسية قد حاكمت الانتقال الديمقراطي برمته وحاكمت شخصيات ذنبها الوحيد - فيما نعلم - الاهتمام والمساهمة في الشأن العام من مواقع مختلفة بل ومتناقضة أحيانا...

لم تتم محاكمة شخصيات بعينها فحسب بل تم رمزيا محاكمة السياسة وأجيال من المناضلين السياسيين كلّهم كانوا، بنسب متفاوتة معارضين للسلطة قبل الثورة.

لا نريد أن نميّز بين هؤلاء، لأن في كل تمييز حيف ويستحيل أن يقوم التمييز على أسس موضوعية لا نقاش ولا جدال فيها ولكن ينبغي الاعتراف أنه يستحيل علينا أن نتحدث عن هذه القضية وكأننا تجاه أناس من كوكب آخر لا تربطنا بهم أية وشيجة أو علاقة...

كل الشخصيات التي ذكرنا آنفا تمثل عناوين هامة للانتقال الديمقراطي ولكن بعضها ارتبط أكثر من غيره بالنضال السياسي والحقوقي في تونس منذ عقود طويلة دون أن يعني ذلك هضما لاسهامات البقية...

أحمد نجيب الشابي لمن يحبه ولمن يعاديه ولمن لا يعبأ به هو بلاشك أهم وأبرز شخصية سياسية تونسية على امتداد العقود الستة الأخيرة فلقد عرف السجن في شبابه أيام الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة وأسهم بصفة فعالة في إعادة بناء جزء من اليسار في ثمانينات القرن الماضي وثم كان زعيم المعارضة ضدّ بن علي لا سيما في العقد الأول لهذا القرن علاوة على دوره الأساسي في الانتقال الديمقراطي...

ينبغي الاعتراف بأن هنالك شيئا ما بين أحمد نجيب الشابي والنخب التونسية كما أن حظوته الشعبية لم تكن دوما في الموعد بعد 14 جانفي 2011 ولكن هذا لا يمسّ من شيء من قيمة الشخص ولا من مكانته الاستثنائية في تاريخ تونس الحديث...

لو كان لنا أن نعطي وجها للنضال الحقوقي والمدني في تونس لكان بلا منازع وجه بشرى بالحاج حميدة.. بشرى بالحاج حميدة «الاصلاحية» كما كانت تسمي نفسها زمن تعليمها العالي أعطت بعدا مميزا للنضال النسوي خاصة وللنضال الحقوقي عامة... بعد التخلص من التزمت الايديولوجي زمن هيمنة الايديولوجيا يسارا ويمينا..

لقد كانت بشرى المثال الحي للانفتاح على الآخر المختلف ايديولوجيا وسياسيا ولكن مع مواقف ومبادئ واضحة لم تحد عنها ولا قيد أنملة: المساواة التامة وغير المشروطة بين النساء والرجال والحقوق والحريات، كل الحقوق وكل الحريات لكل التونسيات ولكل التونسيين... هذا ما جعل من بشرى بالحاج حميدة الأيقونة الأساسية للنضال الحقوقي والمدني في بلادنا منذ شبابها الى شبابها اليوم...

هنالك ثالوث بارز في هذه القائمة أعطوا للنضال بعدا رومنسيا وبطوليا أحدهم في السجن منذ حوالي ثلاث سنوات وهو يناضل بجسده النحيف وبعزيمته التي لا تلين: جوهر بن مبارك، والثانية اعتقلت في نفس الفترة تقريبا وتم بعد أشهر اطلاق سراحها وكان بامكانها الاحتياط والحذر منذ تلك الفترة، وما كان يحق لأحد أن يلومها على ذلك، ولكن اختارت أن تقاوم وأن تتظاهر وأن تساند رغم كا المخاطر وهي اليوم - شيماء عيسى - محاكمة بعشرين سنة سجنا وتم القاء القبض عليها يوم أول أمس وهي تساهم في مسيرة نسوية ورجالية من أجل الحريات...

ثالث هذا الثالوث يمكننا أن نطلق عليه لقب متصوف النضال الديمقراطي...

العياشي الهمامي اليساري والمناضل والحقوقي والمحامي قد حوّل النضال الديمقراطي الى فلسفة حياة الى زهد الى تصوف لا ينظر مطلقا الى العرضي بل فقط الى ما هو باق...

عنده الحياة الشخصية والمبادئ لا تنفك احداها عن الأخرى فحياته الشخصية مبادئ ومبادئه حياته فهو بهذا المعنى صوفي على مذهب الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي: الوحدة في التعدد والتعدد في الوحدة.

قضية «التآمر 1» تعطي الخيط الناظم لما سبقها ولحقها من محاكمات نشطاء المجتمع المدني والحقوقي والسياسي وهي تقول أن محاكمة الانتقال الديمقراطي عامة وشاملة فهي تحاكم ضمير الانتقال الديمقراطي أحمد صواب وهي تحاكم من يبدو أنه النقيض المطلق له عبير موسي والحال أنها هي أيضا من الوجوه البارزة للانتقال حتى وان انكر العديدون هذا التوصيف من أنصارها وخصومها فشرط امكان ظهور عبير موسي هو الثورة والانتقال الديمقراطي لذلك ارتبط تراجيديا مصيرها بمصريه:

بمحاكمة هؤلاء وغيرهم تضع الدولة القوس النهائي للانتقال الديمقراطي..

ولكن ما قد يخفى عن الدولة أن غلق قوس سيفتح ضرورة آخر.. وأن الحرية حلم لا ولن يموت مهما كانت التضحيات من أجله

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115