مجلس النواب يسقط الفصلين 20 و50 من مشروع قانون المالية: مواجهة ناعمة مع السلطة؟

يبدو أن مجلس نواب الشعب قد اختار أن يوجه

رسالة سياسية واضحة للوظيفة التنفيذية عبر إسقاط الفصلين 20 و50 من مشروع قانون مالية 2026، ليجعل من إسقاط الفصلين لحظة برلمانية نادرة، انتزع فيها مجلس نواب الشعب زمام المبادرة، وأرسل للحكومة إشعاراً واضحاً، البرلمان ليس ممراً سريعاً للقوانين ولا ذراعا تشريعيا يلبي إرادة السلطة التنفيذية.

لقد بدا القرار أقرب إلى استعادة مساحة في صناعة القرار، مساحة ظلّت مغيّبة أو مختزلة طيلة الأشهر الماضية تحت شعار وحدة القرار ومركزية الدولة الذي تردده رئاسة الجمهورية والحكومة، وكان من أبرز النقاط السياسية التي استفاضت رئيسة الحكومة في بيانها أمام نواب الغرفتين التشريعيتين.

فالحكومة، حين قدّمت بيانها حرصت على أن تشدد على أن السياسات العمومية يجب أن تدار من مركز واحد، وفق منطق الانسجام ووحدة القرار. وكانت تلك رسالتها للنواب الذين طالبتهم بأن يكونوا سنداً وداعماً لمركز القرار، في إيحاء بأن وظيفة البرلمان، في أفضل الأحوال، هي الدعم والمساندة والتغطية السياسية لما تقرره السلطة التنفيذية، لا صياغة المسارات ولا تعديل الخيارات. هنا بالتحديد وجد نواب البرلمان أنفسهم أمام امتحان رمزي، إما القبول بدور “المصادق” وإما الانخراط في معركة إثبات الشرعية التشريعية.

اختبار يبدو أن إجابة البرلمان عنه كانت عبر إسقاط الفصل 20 من مشروع قانون المالية رغم ما بنته الحكومة من أهمية الفصل على توازناتها المالية. هذا الفصل الذي يتضمن تمديداً في اقتطاع المساهمة التضامنية الاجتماعية بنسبة 0.5 % إلى حدود 2027، قدمته وزارة الشؤون الاجتماعية على أنه إجراء مالي براغماتي سريع، يهدف إلى إنقاذ الصناديق الاجتماعية، وأنه ليس في حاجة إلى نقاش طويل أو حسابات دقيقة.

لكن النواب، وعلى رأسهم أعضاء لجنة المالية، رفضوا الانجرار وراء مقاربة الحكومة، وأعلنوا أنه لا مساهمة ضريبية إضافية دون معطيات مالية واضحة تقدمها الحكومة لتشرح مصير الموارد المالية السابقة التي تم تعبئتها عبر المساهمة الاستثنائية وما تحقق في علاقة بإصلاح الصناديق الاجتماعية. ليكون رفضهم تمرير الفصل هو نتاج طبيعي لما أعلنوه من أن وزارة الشؤون الاجتماعية لم تقدّم الحسابات التفصيلية للصناديق لسنتي 2023 و2024.

وهنا تكمن في التفاصيل حقائق الأمور، فالخلاف هنا لم يكن بشأن نسبة 0.5 %، بل الخلاف يتعلق بمنطق الحوكمة ذاته، ومن يملك حق معرفة الحقيقة المالية؟ ومن يملك سلطة التقييم قبل اتخاذ القرار؟ وهنا يبرز منطلق كل طرف وخاصة البرلمان الذي اختار أن يعلن عن أنه وباعتباره مصدر التشريع فله صلاحية التقييم واتخاذ القرارات أي المساهمة في رسم سياسات الدولة.

والأمر لا يختلف في علاقة بالفصل 50 المتعلق بالضريبة على الثروة، التي أرادتها الحكومة لافتة سياسية عن «العدالة الجبائية»، لكن المجلس عبر لجنة المالية أسقط الفصل بعد البحث عن الأثر الاقتصادي للفصل لا الشعارات، فوفق اللجنة فإن مردودية الفصل تقدر بحوالي 11 مليون دينار مقابل كلفة تنفيذ باهظة، آليات رقابة غير جاهزة، ومخاطر على الادخار والاستثمار. رفضهم لم يكن رفضاً تقنياً فحسب، بل موقفاً سياسياً يعلن عن رفض أن تبنى العدالة الجبائية على حساب الاستقرار الاقتصادي، وأن الضرائب لا تفرض من أجل أن تكون مادة في الخطاب السياسي الاجتماعي.

مبررات المجلس لإسقاط الفصلين ليست هي الحدث بل ما يعنيه إسقاط الفصلين، وهو أن المجلس انتقل من موقع المتلقي إلى موقع الشريك. فكلا القرارين لم يكونا مجرد تصويتين داخل لجنة، بل رسالتين إلى السلطة التنفيذية، مفادها أن البرلمان لا يدار من خارجه، ولا يقبل بإخضاعه تحت شعار وحدة القرار.

كما أن النواب قد عبروا عن رؤيتهم للسياسة الجبائية وهو ما يفتح الباب أمام مشهد سياسي جديد، ففي خلفية هذه المواجهة الناعمة، تتبدى معادلة سياسية أكثر عمقاً. الحكومة أرادت برلماناً وظيفياً، يقدم الاستقرار التشريعي ويمنح في المقابل هامشاً شكلياً للتحرك. لكن النواب ردوا بأن الاستقرار لا يعني السمع والطاعة، وأن الشراكة في القرار جزء من توازن السلطة، وليس تهديداً لهيبة الدولة.

داخل تلك اللحظة البرلمانية، أعاد النواب تعريف دورهم، لن يكون البرلمان ممراً، بل ساحة لصياغة السياسات. ولهذا تحول النقاش الجبائي الذي أرادته الحكومة إجرائياً إلى نقاش سيادي سياسي. البرلمان، بإسقاطه للفصلين، لم يقفل الباب، بل فتحه، أمام تعديلات للنص بما يعكس توازن السلطات والصلاحيات في الدولة.

قد يكون ما حدث داخل لجنة المالية بداية مرحلة جديدة في العلاقة بين السلطتين. فالمعركة باتت حول من يضع السياسات العمومية، وإذا مضى البرلمان على هذا النهج، فإن قانون المالية 2026 قد يصبح نتاج مساومة تشريعية تعيد المؤسسة البرلمانية الى عملية صناعة القرار

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115