الدولة لا تُفاوض: لماذا يتوسع الخلاف وتشتد الأزمات في تونس ؟

يبدو أنه لم يعد من الممكن اليوم النظر لتصاعد حدة

أزمة التعليم الثانوي على أنها جزء من مناورة نقابية تريد تحسين شروط التفاوض وإن اقتضى الأمر الدفع بالأزمة إلى أقصاها والتلويح بالامتناع عن إجراء امتحانات الثلاثي الثاني، في وجه حكومة تمتنع عن التفاوض بل وتتباطأ في تنفيذ التزاماتها السابقة.

ما يجري اليوم هو نتيجة متوقعة لخيارات السلطة، التي باتت تكرر منذ فترة أن الدولة واحدة ومركز القرار واحد في إعلان عن نهجها الجديد في إدارة الشأن العام، الذي يعني أن مركز القرار واحد وأنه على البقية الانضباط لذلك والتنفيذ. وهنا تعلن السلطة أنها لا ترى نفسها طرفا مفاوضا، بل مصدرا نهائيا للحقيقة السياسية، وأنه على الجميع قبول ما يقدم إليه دون مساءلة أو شراكة، أي دون حوار اجتماعي يقود لمنطقة وسط.

خيار يبدو أنه وقع تنزيل بنوده في علاقة بملف التعليم الثانوي، وهو ما استنتجته جامعة القطاع في تفكيك وتأويل خطاب السلطة ووزارة الإشراف خلال الأيام الفارطة في علاقة بالمفاوضات الاجتماعية وبتطبيق الاتفاقيات السابقة، لتسارع الجامعة بعقد هيئة إدارية اتخذت موقفا تصعيديا، يتضمن مقاطعة كافة أشكال التقييم والاختبارات ابتداء من الثلاثي الثاني، على أن يقع تنظيم وقفة احتجاجية أمام وزارة التربية خلال عطلة الثلاثي الأول.

هذا التصعيد رافقه رفع مطالب وهي تفعيل الاتفاقيات السابقة، وعلى رأس القائمة اتفاقات 2023، إلى جانب المطالبة باحترام اتفاقية 8 جويلية 2011 في ما يتعلق بالتكليف الإداري للنظار والمديرين، واعتماد 1 جويلية كتاريخ مفعول رجعي للترقيات ماديا وإداريا. وهي مطالب لا لبس فيها ولا غموض: تنفيذ التزامات سابقة لم تحترم.

ومع ذلك، لم تستجب وزارة الإشراف التي اكتفت بلقاء تفاوضي وحيد يوم 20 نوفمبر الجاري جمع نقابات التعليم الخمس ووزارة التربية، وانتهى هشّا في نتائجه، ليؤكد أن الحوار بالنسبة للحكومة ليس مسارا، بل محطة اضطرارية تمر بها عندما يرتفع الضغط في الشارع، مما يجعل أي حوار مجرد أمر شكلي لا مضمون تفاوضي له.

وهو ما تكشفه نتائج المفاوضات التي لم تقدم شيئا ملموسا للنقابيين، لا في علاقة بالمستحقات المالية، ولا في ملف الترقية، بل تعتمد على التأجيل، ورمي الكرة في ملعب جامعة التعليم الثانوي. وكأن الأزمة مسألة مفتعلة أو نزوة مطلبية لا يمكن الاستجابة لها، خاصة وأنه وقع إقرار مبدأ زيادة الأجور في مشروع قانون مالية 2026 المعروض حاليا على البرلمان للمصادقة عليه.

هذا النهج ليس جديدا على السلطة، التي باتت تكرر امتناعها وتأجيلها لتطبيق اتفاقياتها السابقة مع الأجسام الوسيطة، وهو نهج يستمر في دفع سياسة أزاحت الوسائط التقليدية وألغت أدوارها والأحزاب من أجل تكريس منطق إداري صارم في التعامل مع المجتمع، الذي يختزل دوره ودور الفاعلين الاجتماعيين في تنفيذ قرار الدولة وأجهزتها أو الصمت، في تكريس لمنطق قد يبدو بسيطا وهو: الدولة تقرر، والبقية تتبع.

لكن هذا المنطق، مهما بدا مريحا للوهلة الأولى سواء للسلطة أو أنصارها، فإنه يزرع توترا صامتا في كل مؤسسات الدولة، ويقوض آليات إنتاج السلم الاجتماعي، وهنا تصبح التحركات النقابية ليس مجرد فعل احتجاجي محض، بل مرآة لما يحدث تحت السطح. أي أنه حين تعلن الجامعة العامة للتعليم الثانوي الامتناع عن إجراء الامتحانات والاختبارات فهي تود أن ترسل رسالة سياسية واضحة مضمونها أن الدولة التي تخل بعهودها تفقد شرعيتها المعنوية مهما كانت قوتها القانونية. وحين تتدافع النقابات لإعادة التفاوض فهي لا تبحث عن منحة أو امتياز عابر، بل عن اعتراف بدورها كشريك في إدارة القطاع التعليمي، لا كخادم لقرارات جاهزة.

الخطر هنا ليس في الإضراب أو المقاطعة. الخطر في التوجه الذي يجعل من النقابات خصما يجب ضبطه، لا شريكا اجتماعيا يقع الحوار معه. وحين تغلق الدولة باب الحوار فإنها تقصي فكرة الحوار ذاتها، وتعيد هندسة علاقة المجتمع بالدولة على قاعدة الخضوع لا المشاركة. هذا خيار خطير، لأن إدارة الشأن العام لا يمكن إخضاعها لمنطق الإدارة الصارم أو منطق الحسابات المنضبطة، بل هي إدارة لمنظومات اجتماعية تتطلب توازنا بين الفاعلين.

وليس في تونس اليوم ما يشير إلى أن السلطة تدرك هذا. وهو ما يكشف تصاعد التوتر سواء في قطاع التعليم اليوم أو في قطاع الصحة من قبل، حيث بينت السلطة أنها تدير الملفات الاجتماعية بمنطق إدارة أزمة، الباحث عن تأجيل، وتقديم تطمينات لفظية، ثم صدام حينما يتصاعد الغضب في القطاعات. وهذا من شأنه أن يرسخ انطباعا بأننا أمام إرادة في فرض نموذج جديد لدولة لا تحاور إلا نفسها.

نموذج قد تستفيد منه الدولة والسلطة لبرهة من الوقت ولكن سنخسر ما هو أهم وهو الثقة بين الدولة ومواطنيها، ذلك المخزون غير المرئي الذي من دونه تتحول كل حركة احتجاجية إلى معركة وجود، ويتحول كل مطلب إلى مواجهة مفتوحة مع الدولة التي وإن كان مشروعا لها أن تبحث عن أن تكون قوية، ولكن عليها أن تدرك أن القوة ليست في احتكار القرار، بل في إدارة التعاقد مع المجتمع.

وإن لم تدرك السلطة ذلك اليوم، فقد تدركه لاحقا، لكن بعد أن يصبح ثمن الاستدراك أكثر إيلاما من ثمن الالتزام والحوار

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115