كشفتها مسيرة يوم السبت: ملامح مشترك سياسي جديد

لم تكن مسيرةُ «ضدّ الظلم» التي احتضنتها شوارعُ

العاصمة يوم السبت الفارط مجرّد تحرّك احتجاجي آخر يُضاف إلى سلسلة التحركات التي عرفتها البلاد خلال الأشهر الأخيرة. كانت لحظةً كثيفةَ المعنى، تختزن من الدلالات ما يكفي لتشير إلى بداية تحوّل في سلوك المعارضة وفي بنية المشهد السياسي برمّته.

فمنذ سنوات طويلة، عجزت المعارضة بمختلف تلويناتها عن الالتقاء على الحدّ الأدنى، إذ كانت تناقضاتها ورهاناتها وصراعاتها الأيديولوجية كفيلةً بمنع اي تقارب. لكنّ ما حدث يوم السبت بدا كما لو أنّ شيئًا ما قد تغيّر، إذ أظهرت القوى المعارضة قدرةً على تجاوز خلافاتها، ولو مؤقّتًا، لتلتقي في الشارع خلف شعار واحد «رفع الظلم».

المسيرة، التي رفعت هذا الشعار، لم يكن هدفها المعلن مجرّد الاحتجاج على ما تُتَّهم السلطة بمراكمته من تجاوزات ضدّ المساجين السياسيين. كانت، في عمقها، اختبارًا سياسيًا حقيقيًا لمدى قدرة التيارات والحساسيات المختلفة على التواجد في الشارع دون صدام، وعلى رفع صوت واحد دون تنازع، وعلى التخلّي عن وهْم الطهورية السياسية الذي أفسد، طيلة سنوات، كل محاولات إعادة ترتيب الأولويات وتحديد المهام.

وهذا بالضبط ما بدا أنه تحقق. فالتحرك الذي قاده الشباب وعائلات المساجين، وفي مقدّمتهم عائلة السجين أحمد صواب المبادِرة بالدعوة، جمع أطيافًا واسعة، منتمين لأحزاب ومنظمات، ناشطين مستقلين، عائلات، مكونات كانت إلى عهد قريب تتبادل الاتهامات بالتخوين والتفريط والانتهازية. لم يكن هذا التنوع مجرّد حضور عددي، بل كان مؤشرًا واضحًا على أنّ رياحًا جديدة تهبّ على المعارضة، التي تبدو وكأنها توافقَت ضمنيًا على ضبط حدود الخلاف السياسي بينها بما لا يمنع التقاطع خلف مطالب مشتركة، والالتقاء في الشارع للضغط من أجلها.

وهذا ما اوحى بأنّ جزءًا واسعًا من المعارضة، على اختلاف مشاربها الفكرية، قد أعاد ترتيب أولوياته وتحديد مهمته. فالصراع لم يعد حول المشاريع الكبرى أو حول ملفات الهوية، بل حول الدفاع عن الحدود الدنيا للحياة السياسية. وانكشفت وحداتُ المطالب: حرية التعبير، استقلال القضاء، إيقاف الملاحقات، وحماية الفضاء العام من الانغلاق.

قالت مسيرة السبت، بوضوح لا يحتاج إلى تأويل، إنّ تناقضات المعارضة لم تُمحَ ولم تتلاشَ، لكنها بلغت من التجربة ما يجعلها قادرة على التمييز بين الجوهري والثانوي. والجوهري اليوم هو الدفاع عن الفضاء العام ومنع انغلاقه، ورفض تجريم العمل السياسي.

ولعلّ أهم ما قدّمه مشهد السبت أنّ لغة مشتركة بدأت تتشكّل، وأنّ لحظة الالتقاء التي بدت مستحيلة قبل سنوات، أصبحت اليوم ممكنة بل ضرورية. وما على المعارضة الآن إلا البناء على هذه اللحظة: تحويل الوعي الجديد إلى مسار، والمسار إلى مشروع، والمشروع إلى عقد سياسي يصون الحدّ الأدنى من التعدد، ويحفظ القدرة على الفعل المشترك في زمن تتضاءل فيه مساحات المقاومة. مساحات سمحت هوامشُها بكسر رتابة المشهد السياسي، وأعادت تذكير الجميع بأنّ الشارع ما يزال قادرًا على إنتاج معنى جديد، وأنّ السياسة تقوم على البناء فوق قاسم مشترك لا على وهم التفرّد.

إنّ الالتقاء غير المعلَن، المنضبط إلى سقف مشترك من الشعارات، كشف عن مؤشرات نضج سياسي لم تكن متاحة من قبل، حين كانت كل جهة تعتقد أنها قادرة على خوض الصراع منفردة أو على احتكار قيادة المشهد دون الحاجة إلى الآخر. وقد أثبتت التجربة، بقسوتها، أنّ هذا الوهم مكلف.

لقد سمح هذا الاختبار للمعارضة بأن تتقدّم خطوة صغيرة لكنها مؤثرة نحو بناء مشترك سياسي جديد، لا يقوم على وحدة البرامج بقدر ما يقوم على وحدة المخاطر. فهذا المشترك، الذي تشكّل في الشارع ولم يُدوَّن في أي وثيقة، هو في جوهره الشكلُ الأولي لما يمكن أن يتحوّل لاحقًا إلى عقد سياسي يحدّد حدود التنافس داخل المعارضة قبل أن يحدّد حدود الصراع مع السلطة. عقدٌ يُدرك أنّ المعركة اليوم تتمحور حول أسئلة بسيطة في ظاهرها، لكنها تختزل كلّ معنى المواجهة: من يملك الحق في التعبير؟ من يملك الفضاء العام؟ كيف نضمن استقلال القضاء وحرية الإعلام وحق المواطنين في الوجود السياسي؟

لقد دلّت المسيرة على أنّ الإجابة المشتركة لدى المعارضات هي ضرورة كسر العزلة، واستعادة الحدّ الأدنى من الفعل الجماعي، وتحويل الاحتجاج من لحظة رمزية إلى ورقة ضغط. غير أنّ هذا التحرك، رغم أهميته، يظلّ نقطة بداية لا بد أن تتلوها عملية بناء أوسع، تقوم على تنظيم الجهود وتوحيد الآليات وترتيب الأولويات. فالشارع، مهما بلغت قوته الرمزية، يحتاج إلى أذرع سياسية قادرة على تحويل زخمه إلى تأثير فعلي. وهذا يفرض على المعارضة أن تتجاوز الحسابات الصغيرة، وأن تتعامل مع ما حدث باعتباره مناسبة لإعادة ترتيب صفوفها وفق رؤية واقعية لا تُقصي الاختلاف بل تنظّمه.

وإذا ما نجحت في ذلك، ستتحول المسيرة من حدث احتجاجي عابر إلى محطة تؤسّس لإعادة تشكيل المجال السياسي برمّته، وتفتح بابًا كان موصدًا أمام إمكان خلق توازن جديد مع السلطة. لقد قالت المسيرة بما يكفي من الوضوح إنّ لحظة بناء لغة مشتركة قد بدأت، وإنّ هذا المشترك – مهما بدا هشًا أو متواضعًا – قادر، إذا ما تم تثبيته وتطويره، على أن يصبح نواة عقد سياسي جديد يعيد الاعتبار للفعل السياسي.

إنها لحظة نادرة ينبغي البناء عليها قبل أن تتبدّد، لحظة تقول إنّ السياسة ما زالت ممكنة، وإنّ الطريق، مهما بدا صعبًا، يبدأ بخطوة صغيرة مثل تلك التي عاشتها العاصمة. خطوة تعيد للفضاء العام حياته، وللمعارضة دورها، وللبلاد شيئًا من توازنها المفقود

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115