في مجلس الأمن، والقاضي بتفويض قوّة دولية لإدارة غزة، لحظة كاشفة تغيّرت فيها لغة الصراع وإعادة هندسة العلاقات بين كل الأطراف المتدخلة، القوى الوطنية والإقليمية والدولية، لتضع الجميع: الفلسطينيين والعرب والعالم، أمام اختبار التعامل مع واقع جديد يُفرض على خرائط الجغرافيا والسياسة كما على الوعي.
فالقرار، رغم ما تضمنه من دعوات للإنسانية ووعود بإعادة إعمار قطاع غزة المدمّر جرّاء حرب إبادة استمرت سنتين، يعلن بشكل واضح عن انتقال إدارة القطاع من الفاعل المحلي الفلسطيني إلى فاعل أجنبي دولي، وهو «هيئة انتقالية» أُسندت إليها وفق القرار مهمّة إدارة القطاع سياسيًا وإداريًا وأمنيًا، ولكنّ الأهم نزع سلاح المقاومة وترتيب المشهد السياسي الفلسطيني.
قرار، وإن ثبت وقف إطلاق النار، إلا أنه يعلن عن مرحلة انتقالية كاملة بموازين قوى جديدة ورهانات أعمق بكثير مما يحمله النصّ المُعلن، والذي يعكس رغبة الإدارة الأميركية في إعادة تشكيل المشهد الإقليمي برمّته بما يناسب مصالحها وحليفها في المنطقة، أي الاحتلال.
مصالح تجد فيها المقاومة الفلسطينية نفسها عنصرًا من معادلة معقّدة، فهناك الحاجة الإنسانية الضاغطة لإدارة المساعدات الإنسانية، بل وضمان سلاسة دخولها للقطاع واستعادة الخدمات وخلق حدٍّ أدنى من الاستقرار، وهي عناصر يتضمنها القرار الذي وضع شرطًا أمنيًا عنوانه الأكبر تجريد المقاومة من سلاحها وفرض وصاية دولية يمكن أن تمتد في الزمن.
هذه الترتيبات المقترحة ضمن الخطة الأميركية ــ التي تواجه رفضًا من قبل فصائل المقاومة ولا تدعمها غير السلطة ــ بُنيت على افتراض أنّ قوّة دولية ستكون قادرة على تفكيك البنية المسلّحة الراسخة للمقاومة، وإعادة تشكيل المشهد الميداني والأمني في قطاع غزة، ولاحقًا في كامل الأراضي الفلسطينية، عبر إنشاء مؤسسات أمنية جديدة يُعلن أنه سيقع تسليم إدارتها لاحقًا إلى سلطة فلسطينية بعد أن يقع «تأهيلها».
وهذه الفرضية تستند إلى أن القرار سيكون مدعومًا من قبل حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة الذين تراهن على قدرتهم على إقناع المقاومة بالاستجابة لبنود القرار، وهو ما يبدو أنه سيكون صعبًا، لأنّ أهم فصائل المقاومة في غزة أعلنت صراحة رفضها للقرار بوضوح، وإشارتها إلى أنها ستتعامل مع أيّة قوّة دولية تسعى إلى تجريد المقاومة على أنها قوّة احتلال جديدة، وهو ما يجب النظر إليه على أنه تلويح بالتصعيد والصدام. وهذا يعني ضمنيًا الإشارة إلى إمكانية دخول المنطقة في مسار من التصعيد قد يكون من الصعب على الدول التي ستتشكل منها القوّة الدولية أن تجاريه أو أن تتحمّل التكلفة البشرية والسياسية والمالية له.
إذ إن هذا القرار، الذي يتجاوز في مضمونه المسألة الأمنية والإنسانية التي يقع ربطهما ببعضهما البعض، سيؤسس لمرحلة لا تقتصر على تفكيك البنية التحتية للمقاومة في غزة، بل ستشمل أيضًا إعادة صياغة الشرعية الفلسطينية. فالسيادة هنا لن تعد حقًا للفلسطينيين الذين هم وحدهم من لهم الحق في تقرير مصيرهم وخياراتهم، بل للمجتمع الدولي الذي سيلعب دور الوصيّ على الفلسطينيين، ويسلبهم إرادتهم لا فقط في غزة بل على كامل الأراضي الفلسطينية، التي ستكون بشكل أو بآخر تحت الوصاية المباشرة أو غير المباشرة. فالقرار اشترط من أجل تسليم إدارة غزة إلى الطرف الفلسطيني أن تقوم السلطة بإصلاحات سياسية ومؤسساتية، والإشكال ليس في الإصلاحات بل في أنها ستكون خاضعة لتقييم الإدارة الانتقالية التي يمكنها أن تحدد إن كانت إصلاحات مقبولة أو مرفوضة، وهو وبشكل صريح إعلان بأن السيادة الفلسطينية غير مقبولة ما لم تستجب لشروط الخارج.
وتلك الشروط التي صيغت على قياس الاحتلال ومصالحه الاستراتيجية، تحظى اليوم بدعم عربي وإسلامي، إذ إن الجميع بات يبحث عن نقاط تقاطع مصالحه مع الترتيبات الأميركية، ويغضّ البصر عن إمكانية أن تتحوّل القوّة الدولية إلى صيغة احتلال مقنّع أو قاعدة عسكرية متقدمة جديدة.
فتداعيات القرار تتجاوز حدود غزة نفسها، وتشمل العالم الذي أعلن عن العودة لإدارة الملفات الشائكة بمنطق الوصايا المباشرة التي تعود اليوم إلى قلب الشرق الأوسط، في لحظة تتصاعد فيها التصدعات الجيوسياسية بين القوى الكبرى، تجعل من القرار بمثابة منعطف جيوسياسي يواجه فيه الفلسطينيون أشد اختبار لشرعيتهم وتمثيلهم منذ عقدين.
قرار يولد سيناريوهات مفتوحة على احتمالات متناقضة. فالقرار هو محاولة لإعادة صياغة قواعد اللعبة في المنطقة والعالم. وهو خطوة ستُقاس تداعياتها بما ستفعله القوى الدولية على الأرض، وبما ستفعله القوى الفلسطينية داخل القطاع، وبما ستقرّره العواصم العربية التي تجد نفسها أمام اختبار جديد: هل تمسك بزمام المبادرة أم تكتفي بردّ الفعل؟ وفي انتظار ما ستكشفه الأسابيع القادمة