بأن العالم يعيش لحظة انفلات كبرى، تتعدد فيها مناطق الاشتباك والصراع من أجل الطاقة والممرات البحرية، ويتجدد التنافس المحموم على إفريقيا، وتُعاد صياغة موازين القوى والنفوذ في المتوسط والمحيطين.
حرب أوكرانيا قلبت حسابات أوروبا الطاقية والأمنية، ودفعت بكبار القارة للبحث عن شراكات جديدة جنوب المتوسط بعد أن خسرت إمدادات الغاز الروسي. وفي إفريقيا، بقي الساحل والصحراء مسرحًا لتنافس دولي غير مسبوق، روسيا تقدّم الأمن مقابل النفوذ، الصين المال مقابل الموارد، تركيا التجارة مقابل التموقع الاستراتيجي. أما الولايات المتحدة، فقد عادت تدريجيًا للمنطقة من منطق القوة لفرض توازن مع اتساع تأثير بكين وموسكو.
في المتوسط، تتغير معادلات القوة البحرية والاقتصادية بين عشية وضحاها. المسارات التجارية للطاقة تتبدل، والاتحاد الأوروبي يعيد هندسة علاقاته مع الضفة الجنوبية بمنطق “الأمن أولًا”، والمغرب والجزائر ومصر تتحرك كفاعلين إقليميين يبحثون عن مكان متقدم في إعادة ترتيب الفضاء المتوسطي. لحظة دولية استثنائية، تتغير فيها الخرائط والمصالح بسرعة، ويعاد فيها توزيع الأدوار لمن يملك الجرأة على اقتناص الفرص والتحرك خارج دائرة الانكماش والانتظار.
دول تتقدّم، وأخرى تتراجع، وثالثة اختارت أن تتفرّج على هذا المشهد العالمي وهو يتشكّل. وتونس، للأسف، من هذه الدول. فبين الانشغال الكلي بإدارة الوضع الداخلي وتعقيداته الاقتصادية والاجتماعية، والتعامل مع السياسة الخارجية بوصفها بندًا ثانويًا أو ترفًا غير ضروري، فقدت الدولة ما تبقى لها من نفس استراتيجي وحضورها الدبلوماسي.
ليتراجع التفكير الدبلوماسي الذي يصنع المبادرة و يستبق الأزمات ويبحث عن الفضاءات الجديدة. ولم تعد علاقات تونس الإقليمية والدولية تُبنى على تصور واضح للمصلحة الوطنية بعيدة المدى، بل على منطق إدارة يومية للأزمة، وعلى ردود الأفعال لا رسم الأفعال.
هذا الانكماش الدبلوماسي ترافق مع تراجع واضح في الأداء الاقتصادي الخارجي، فقد تقلصت حصّة تونس من الاستثمار الأجنبي المباشر بنحو 40 % بين 2018 و2024، وتراجع حضورها في أسواق إفريقيا جنوب الصحراء رغم أن صادرات الدول المغاربية الأخرى تضاعفت في الفترة نفسها. كما تراجع دور تونس التقليدي وابتعدت أنظار الفاعلين الدوليين عنها وصار حضورها في القمم والمحافل الكبرى حضور بروتوكول لا تأثير، وحضور مراقب لا صانع قرار.
واقع أعادت نقاشات مشروع قانون المالية تسليط الضوء عليه حينما تمت الإشارة إلى أن أكثر من 40 سفارة وقنصلية تونسية عبر العالم بلا رؤساء بعثات أصليين. رقم صادم كشفه نواب في البرلمان، لكنه قبل ذلك حقيقة يعرفها شركاؤنا وأصدقاؤنا وحتى خصومنا منذ سنوات. هذا الشغور ليس مسألة إدارية عابرة، بل هو عنوان أزمة بنيوية في إدارة الجهاز الدبلوماسي. فعندما تغيب القيادة السياسية-الدبلوماسية عن مواقع أساسية وعدد من العواصم الإفريقية والأوروبية، تصبح مصالح تونس بلا من يدافع عنها أو يلاحق فرصها أو يفاوض باسمها.
شغور بعثات وتدوير محدود للمناصب الدبلوماسية وتقلّص في دوائر التفكير الاستراتيجي بوزارة الخارجية، كلها عناصر عمقت الشعور بأن البلاد تنحسر دبلوماسيًا. والنتيجة كانت واضحة، ضياع فرص وإهدار إمكانيات للتطور وتراجع في الحضور الرمزي والمعنوي، بل وحتى في متابعة أوضاع الجالية التي تمثل أكثر من مليون تونسي موزعين بين أوروبا وأمريكا الشمالية والخليج.
في عالم اليوم، الغياب يكلف كثيرًا. والدول التي لا تسعى للاستفادة من تشكيل التوازنات الجديدة ستجد نفسها بعد سنوات تدفع ثمن انشغالها بذاتها إلى حد إهمال محيطها. تنظر إلى الصراعات وكأنها تحدث في كوكب آخر، وتتجاهل أن كل تغيير عالمي يفتح نافذة فرص لا تبقى مفتوحة طويلاً.
إن السؤال الذي يفرض نفسه اليوم: هل نملك ترف الانتظار؟
في لحظة عالمية مليئة بالمخاطر، لكنها أيضًا زاخرة بالفرص، الصمت ليس حيادًا… بل انسحاب من التاريخ. وإن لم تستعد تونس قدرة المبادرة وتعيد تفعيل جهاز دبلوماسي قادر على الحضور والتأثير، فإن ثمن الغياب سيدفع مضاعفًا، ليس فقط في الاقتصاد والسياسة، بل في المكانة والدور والقدرة على حماية المصالح الحيوية