مشروع قانون مالية 2026: هل يحجب خطاب الطمأنة هشاشة المالية العمومية ؟

 

 

حرص كلٌّ من وزيرة المالية ووزير الاقتصاد أثناء النقاشات في لجان الغرف التشريعية على أن تحمل تصريحاتهما بشأن مشروع قانون المالية لسنة 2026 رسائل طمأنة أكثر من تقديم حقيقة المشهد المالي والاقتصادي للبلاد، لتوحي كلماتهما، للوهلة الأولى، بأنّ تونس تتّجه نحو التوازن المالي والنمو الاقتصادي بنسبة 3.3 %. غير أنّ قراءة متأنّية للأرقام الواردة في الميزانية والسياق المالي العام تكشف أنّ رسائل الطمأنة مجرّد خطاب بلاغي يخفي هشاشة هيكلية تتعمّق سنة بعد أخرى.

ففي مستوى الخطاب، تؤكد وزيرة المالية مشكاة سلامة الخالدي أنّ مشروع قانون المالية الجديد «لن يرفع مستوى الضرائب لا على الأفراد ولا على المؤسسات»، وأنّ الدولة «تحافظ على طابعها الاجتماعي». كما تحدّثت الوزيرة في جلسة الاستماع أمام لجنتي المالية بالبرلمان عن «مواصلة تنفيذ الإصلاحات» التي لم تحدّد طبيعتها أو مداها.

لكنّ الناظر في ما تحمله وثيقة مشروع قانون المالية والميزانية سيقف أوّلًا على غياب وثيقة شرح الأسباب التي تؤطّر المشروعين وتشرح مصدر التمويل وانعكاسات الإجراءات المنتظرة على الاقتصاد والمالية. هذا الغياب قد يُفهم على أنّه مؤشّر على ارتباك في الرؤية الحكومية.

ولا يقتصر الأمر على ما يوحي به عدم تقديم الحكومة وثيقة شرح الأسباب، بل يتعدّاه إلى ما يحمله مشروع القانون والميزانية من دلالات، سواء تعلّق الأمر بالنصوص القانونية أو بالمصاريف المبرمجة، التي تثير جملة من الأسئلة حول شعار الدولة الاجتماعية. فوفق تقرير إنجاز ميزانية 2025 المضمَّن ضمن الوثائق المتعلّقة بمشروع قانون مالية 2026، يتبيّن أنّ الحكومة قامت بصرف حوالي الثلث ممّا رُصد لنفقاتها الاجتماعية، بل وصرفت 14 % فقط من المبلغ المخصّص لدعم المواد الأساسية.

أمّا في علاقة بطابعها الاجتماعي، ففي مشروع قانون مالية السنة القادمة حافظت الحكومة على ذات التوجّه المتمثّل في الإحاطة الاجتماعية لشرائح محصورة العدد بميزانية متواضعة لا تتجاوز بضعة عشرات من الملايين، موزّعة على أكثر من مشروع لا يستهدف إلا شرائح وفئات بعينها وليس ذا بعد شامل. ويتأكّد ذلك أكثر في نفقاتها المخصّصة للخدمات الاجتماعية، سواء في النقل أو الصحّة أو التعليم وغيرها، حيث يُوجَّه الجزء الأكبر من الاعتمادات المالية للتأجير ونفقات التصرّف وليس لتحسين الخدمات أو الاستثمار.

وهذا يجعل من مشروع قانون المالية الذي «يعكس الدور الاجتماعي للدولة» وفق الخطاب الرسمي بعيدًا عن شعاره المركزي، فالمعروف أنّ الطابع الاجتماعي للدولة يستلزم توجيه الموارد نحو التعليم والصحّة والنقل العمومي، في حين تشير مخصّصات هذه القطاعات إلى تراجع نسبي في الإنفاق الحقيقي، مقابل ارتفاع نفقات التأجير وخدمة الدين. وهو ما يجعل الخطاب المقدَّم للرأي العام كالتزام اجتماعي أقرب إلى رسائل طمأنة تصطدم بحقيقة إعادة توزيع العجز داخل الميزانية دون مراجعة جوهرية لهيكلتها.

أمّا بشأن ما يُعلَن من الاستمرار في تنفيذ الإصلاحات، فإنّ ما يُصرَّح به مغاير لما تحمله الوثيقة من التزامات، سواء تعلّق الأمر بالتحكّم في العجز أو بكتلة الأجور أو بنسبة المديونية. فالأوضاع والأرقام تُبيّن أنّ نوايا الحكومة لم تنزل إلى إجراءات ذات تأثير طويل الأمد. مثال ذلك أنّ تقليصها لنسبة كتلة الأجور من الناتج الداخلي بـ0.3 % قابله رفع في عدد العاملين في الوظيفة العمومية بنسبة 7 % عبر انتدابات جديدة وتسوية وضعيّات قد تهدّد مستقبلًا قدرة الحكومة على التحكّم في كتلة الأجور التي تستأثر بأكثر من 40 % من نفقات ميزانية 2026.

من جهته، أعلن وزير الاقتصاد والتخطيط سمير عبد الحفيظ أنّ الميزان الاقتصادي لسنة 2026 يستهدف نسبة نموّ بـ3.3 %، لكنّ هذه النسبة تبقى أقرب إلى التقديرات النظرية منها إلى المؤشّرات الواقعية، خاصّة في ظلّ تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر بأكثر من 12 % خلال السداسي الأول من 2025، وارتفاع نسبة المديونية إلى ما يفوق 81 % من الناتج الداخلي الخام وفق آخر بيانات المعهد الوطني للإحصاء، إضافة إلى تقديرات صندوق النقد الدولي بأنّ النمو سيكون في حدود 2.6 % سنة 2026 مدفوعًا بتحسّن مؤشّرات قطاعي الفلاحة والسياحة بالأساس. وهذا يؤكّد استمرار الأزمة الهيكلية في الاقتصاد التونسي الذي بات في دوّامة من النمو الهشّ الذي ترتهن فيه محرّكات إنتاجه على عوامل ظرفية لا على سياسات عمومية قادرة على ضمان نموّ مستدام.

كما تكشف الأرقام أنّ الهاجس الأساسي للميزانية هو الحفاظ على التوازنات المالية، ممّا قاد إلى تخصيص إنفاق أقلّ من 6 مليارات دينار للاستثمار العمومي الذي يلعب في تونس دور قاطرة النموّ والاستثمار. ومع ذلك خُصِّص له أقلّ من 7 % من نفقات الميزانية التي يطغى عليها اليوم البعد المحاسباتي الباحث عن إظهار الانضباط المالي أكثر من خلق بيئة محفّزة للاستثمار والنموّ. وبهذا المعنى، يمكن القول إنّ المشروع يكرّس منطق التقشّف المقنّع وإعادة تدوير الأزمة في مشروع القانون الجديد.

وهذا يجعل من تصريحات الوزراء أمام لجان البرلمان خطاب طمأنة أكثر من كونها رؤية اقتصادية متكاملة، ويكشف أنّ هاجس السلطة هو البحث عن التوفيق بين متناقضات: تهدئة اجتماعية دون كلفة ونفقات إضافية، ونموّ اقتصادي دون توفير شروطه وتمويله، وتوازن مالي دون أدواته

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115