إلى واجهة المشهد الوطني، فبعد أيام من لقاء ممثلين عنهم برئيس البرلمان، حمل خطابهم اليوم تحذيرات للسلطة: إمّا معالجة ملفهم بجدية، أو فإنهم سيعودون إلى الشارع غاضبين، في تلويح بالتصعيد إن قابلت السلطة مطالبهم بالمماطلة والتسويف.
تحذير حملته كلمات يُسرى ناجي، الناطقة الرسمية باسم أصحاب الشهادات المعطّلين عن العمل، التي وجّهت انتقاداً لنهج السلطة في معالجة ملفات على حساب أخرى، والمقصود هنا إعطاء الأولوية لتسوية وضعيات وانتداب الأساتذة النواب عوض منح هذه الأولوية لانتداب العاطلين عن العمل. ولوّحت ناجي بأنه إن لم يجدوا تفاعلاً حقيقياً من قبل السلطة خلال أيام، فإنهم سيتوجهون إلى الشارع ولن يغادروه قبل معالجة ملفهم وصدور النصوص الخاصة به في الرائد الرسمي.
هذه المطالب، التي يرفعها تونسيون وتونسيات، تُعدّ من وجهة نظرهم حقاً واستحقاقاً عادلاً لإنصافهم من قبل الدولة التي ترفع شعار العدالة الاجتماعية، وتتَبنى في خطابها الرسمي مطلب تشغيل أصحاب الشهادات العليا العاطلين عن العمل. وهو ما بات بمثابة الطوق الذي يقيد السلطة ويضعها أمام تبعات خطابها السياسي وشعاراتها.
فهي اليوم بين خيارين: إما الاستجابة لهذه المطالب وإقرار انتدابات في الوظيفة العمومية لسنة 2026 بهدف امتصاص الغضب وتهدئة المناخ الاجتماعي، وتحمل التكلفة المالية لهذا الخيار وما سيفرضه من ضغط إضافي، أو الرضوخ لواقعها المالي وتجنّب التزامات ذات تبعات مالية ضخمة، وهو ما يعني تأجيل حلّ الملف والمراهنة على قدرتها على احتواء الشارع إن تحرّك.
وضع صعب وُضعت فيه السلطة: تغذية الغضب الاجتماعي إن لم تستجب، أو الاستجابة والمخاطرة بمفاقمة أزمة ماليتها العمومية وإثقال ميزانية مثقلة أصلاً بالديون والنفقات. خاصة وأن السلطة تدرك قبل غيرها أن كتلة الأجور تجاوزت منذ سنوات الخطوط الحمراء، وأن العجز المالي بات مزمناً، ما جعل الدولة تواجه صعوبات في تعبئة موارد مالية لتمويل خدماتها الأساسية.
في ظل هذا السياق، تجد السلطة نفسها اليوم مقيّدة بخطابها السياسي الذي غذّى مشروعية مطالب العاطلين عن العمل، وبات خطاب رئيس الدولة بمثابة التزام سياسي من وجهة نظرهم بمعالجة ملفهم، مما يجعلهم اليوم يضغطون على اليد التنفيذية أي الحكومة، وعلى الذراع التشريعي أي البرلمان، من أجل تحويل هذا الخطاب إلى سياسات عملية.
وهكذا، حاصرت السلطة نفسها بنفسها: خطاب سياسي من رأس الدولة مباشر وواضح في تبنّي مطلب المعطّلين، ومشروع قانون يتعهّد رئيس البرلمان بتمريره إلى الجلسة العامة قبل نهاية السنة وفق ما يقوله ممثلو العاطلين. وهو ما يجعل أي تأخير في معالجة الملف شرارة لأزمة ثقة جديدة بين الشباب والدولة، ويفتح الباب أمام موجات احتجاجية ذات طابع سياسي أوسع.
والضغط هنا مضاعف، فالاستجابة التامة للمطالب دون تقدير للكلفة الاقتصادية ستقوّض جهود التحكم في الوضع المالي التي تراهن عليها الحكومة لتفادي تدعيات الوضع المالي الصعب. وهذا يجعل السلطة محاصرت بين ضرورة التهدئة الاجتماعية ومتطلبات الواقعية الاقتصادية، في توازن هشّ قد لا يصمد.
حصار لا يبدو أن السلطة قد تنجح في فكه، وإن تمكنت منه بحلّ سحري، فإنها ستتكبد تبعات ذلك على المدى القصير والمتوسط، لا فقط بتحمل تكلفة مالية ضخمة في ظل وضع ماليتنا العمومية الراهن، بل أيضاً في تغذية المطلبية وتشجيع مجموعات أخرى من التونسيين على التحرك والضغط بدورهم من أجل تلبية مطالبهم، خاصة إذا تعلّق الأمر بالتشغيل.
وضعية خبرتها الحكومات المتعاقبة، خصوصاً في ملف انتداب الأساتذة والمعلمين النواب، ولاحقاً في ملف الدكاترة المعطّلين، وها هي اليوم تواجهها مجدداً في ملف أصحاب الشهادات العليا العاطلين عن العمل. فتسلك الحكومات الأربع التي تعاقبت على القصبة منذ 2021 النهج ذاته الذي اتبعته الحكومات المتعاقبة منذ الثورة، وهو سياسة الترضيات الاجتماعية عبر انتدابات جماعية وتسويات ظرفية لتهدئة الشارع وامتصاص الغضب. خيار كانت السلطة تنتقده وتعتبره ضرباً من الفساد، وها هي اليوم تجد نفسها في ذات القارب وبذات السياسات التي غاب عنها أي بعد اقتصادي منتج أو إصلاح هيكلي مستدام.
خيار الترضيات الاجتماعية وشراء السلم الأهلي وتحميل المالية العمومية أعباء إضافية، تبيّن نتائجه السلبية سواء في تضخّم نفقات الأجور على حساب بقية النفقات كالدعم أو الاستثمار، أو في تضخّم القطاع العمومي والوظيفة العمومية رغم ضعف التنمية.
وهذا ما يجعلنا أمام حتمية اتخاذ خيار شجاع والبحث عن معالجة الملف بعيداً عن الاعتبارات السياسوية والضغوط المتزايدة. فالمطلوب اليوم ليس إعادة إنتاج سياسات الانتداب العشوائي، بل بناء سياسة تشغيل جديدة تقوم على الاستثمار في الإنسان، لا على تحويله إلى عبء على الميزانية.
فالبطالة ليست مجرد مشكلة اجتماعية، بل هي نتيجة مباشرة لاقتصاد لا يخلق القيمة ولا يربط التعليم بسوق العمل. إن الخروج من هذه الدائرة يقتضي إصلاحاً عميقاً في التعليم والتشغيل، وتشجيع المبادرة الفردية، وتحرير الطاقات الشابة من انتظار الوظيفة العمومية إلى خلق فرصهم بأنفسهم في اقتصاد منتج ومفتوح.
ما يحدث اليوم ليس خطر صدام بين السلطة والمعطّلين، بل اختبار حقيقي لمدى قدرة الدولة التونسية على التوفيق بين العدالة والقدرة، بين واجب الإنصاف وحدود الإمكانيات. وإدراكها أن إدارة الأزمة لم تعد ممكنة بالمسكنات ولا بالوعود المؤجلة، بل تتطلب شجاعة سياسية لمصارحة التونسيين بحقيقة الوضع، ورؤية جديدة تعيد تعريف دور الدولة، لا بوصفها جهة توظّف الجميع، بل كفاعل يخلق شروط العمل والإنتاج للجميع