في نشراته الأخيرة المستندة إلى نتائج التعداد العام للسكان والسكنى 2024 صورة قاتمة للوضع الاقتصادي والاجتماعي، حيث يتأكد أن البلاد تعيش أزمة هيكلية عميقة، لم تعد خافية على أحد، ولعل أبرز تجسيد لها يمكن في نسبة البطالة ونسبة التغطية الاجتماعية والصحية.
إذ يستمر تعثر منوال التنمية في تونس التي لم تجد بعد صيغتها التنموية القادرة على إحداث مواطن شغل تتناسب وعدد الوافدين سنوياً إلى سوق الشغل، وهو ما أدى إلى أن تتواصل المعضلة الكبرى المتمثلة في تسجيل نسب بطالة مرتفعة تبلغ 17,2% رغم التراجع الطفيف في نسبة السكان الناشطين، وبفوارق صارخة بين الجنسين. فالنساء هنّ الأكثر تضرراً، إذ تصل نسبة البطالة لديهن إلى 24,6% مقابل 13,1% لدى الرجال.
وهو ما يعكس أن الاندماج المهني للمرأة مازال عالقاً بين واقع سوق عمل غير منصف وسياسات تشغيل عاجزة عن تقديم إجابة عن سؤال يُطرح منذ دولة الاستقلال: أي منوال اقتصادي يمكنه أن يحد من نسبة البطالة ويقلصها لتجنب أن يشهد أكثر من ربع مليون تونسي وتونسية ينتظر التحاقهم بسوق الشغل خلال سنوات مصيراً مشابهاً لمن سبقوهم؟
سؤال ظل عالقاً دون إجابة يمكنها أن تقدم لنا معادلة تسمح بأن تنخفض نسبة البطالة لتكون برقم وحيد، أو أن تصبح أكثر عدلاً بين الأجيال، لعل في ذلك ما يمنح الشباب التونسي الوافد إلى سوق الشغل أملاً بغد أفضل، لا يكون فيه شاب تونسي من أصل اثنين تقريباً تتراوح أعمارهم بين 15 و24 سنة ومسجل في الفئة النشيطة (أي القوى العاملة) محالاً على البطالة، فيما تنخفض لتكون تونسي من بين كل 5 في الفئة العمرية بين 25 و34 سنة غير قادر على أن يجد موطئ قدم في سوق الشغل، مقابل نسبة بطالة تنخفض إلى حوالي 9 نقاط في الفئة العمرية بين 45 و49 سنة.
هذه الأرقام لا تعكس فقط مجرد صعوبات ظرفية، بل تكشف عن خلل بنيوي في سوق الشغل وفي منظومتنا الاقتصادية والتعليمية والتكوينية التي يبدو أنها تعاني إلى غاية اليوم من غياب رؤية اقتصادية تستوعب الطاقات الجديدة، سواء في المدن أو الأرياف.
إذ أن المشهد في الريف التونسي يزداد تعقيداً، فإن كان الحلم بالاندماج في سوق الشغل صعباً في المدن، فإنه يكاد يكون شبه مستحيل في الريف التونسي الذي يسجل نسبة بطالة بلغت 21,1% مقابل 15,8% في الوسط الحضري، وهو ما يعكس استمرار الفجوة التنموية وفشل السياسات العمومية في خلق توازن جهوي حقيقي وإدماج الريف التونسي في التنمية.
هذه الصورة التي تقدمها لنا أرقام التشغيل وفق نتائج التعداد العام للسكان لسنة 2024 تظل غير كافية لنقل صورة أشمل عن واقع التشغيل في تونس والذي بدوره يكشف عن الوضع الاجتماعي، فلو نظرنا إلى الأرقام الخاصة بالتغطية الاجتماعية، سنقف على جانب آخر من الهشاشة الناجمة عن ضعف جودة التشغيل، فثلث العاملين تقريباً، أي من لهم مواطن شغل، هم خارج منظومة التغطية الاجتماعية وما تقدمه من امتيازات وخدمات. فمن إذن لا يتمتع بالحماية إلا 65,6% من المشتغلين والمقدر عددهم بأكثر من 3 ملايين و600 ألف. ويتمتع منهم من هم في الوظيفة العمومية أو القطاع العام بتغطية كاملة، في حين أن العامل في ورشة صغيرة أو في الحقول الزراعية هم الأقل حضوراً، كما أن الشباب، في بداية مسارهم المهني، لا يتمتع أكثر من نصفهم بأي تغطية، ما يجعلهم في مواجهة مباشرة مع الهشاشة.
هشاشة تتحسن نسبياً إن تعلق الأمر بالتغطية الصحية التي تشمل 81% من التونسيين، في حين يترك نحو 2,27 مليون تونسي دون أي تغطية صحية، وهو رقم ثقيل يكشف حدود المنظومة الصحية والاجتماعية في البلاد.
فرغم أن الدولة وضعت سياسات بهدف الحماية الاجتماعية والصحية عبر منظومة "أمان"، إلا أن الأرقام المقدمة من قبل المعهد الوطني للإحصاء تكشف أن هذه السياسات محدودة التأثير. فالتدخلات المالية عبر تحويلات مباشرة وبطاقات علاج لا يتجاوز عدد المستفيدين منها 382 ألفاً، وهو ما يمثل 8% من العائلات التونسية التي تُصنف كعائلات محدودة الدخل أو معوزة. أي أنها تستهدف بالأساس الفئات غير النشيطة، وهو ما يعني أن هذه السياسات لا يستفيد منها جزء واسع من التونسيين هم من المستحقين لها، وهم بالأساس العاطلون عن العمل الذين يعانون اليوم من هشاشة وفقر متنامي.
كل هذه الأرقام والمعطيات تؤكد أن الأزمة في تونس ليست ظرفية ولا مرتبطة فقط بتباطؤ اقتصادي، بل هي أزمة هيكلية ممتدة. أزمة تكشف اقتصاداً غير قادر على خلق الثروة والشغل، ومجتمعاً يعاني من فوارق جهوية واجتماعية صارخة، ومنظومة حماية عاجزة عن تحقيق العدالة الاجتماعية.
إنها أزمة تعكس تآكل العقد الاجتماعي ذاته، عقد لم يعد يوفر للتونسيين، للنساء كما للرجال، للشباب كما للكبار، ما يكفي من فرص أو ما يضمن لهم حياة كريمة. ولا سبيل إلى الخروج من هذا النفق إلا برؤية إصلاحية شجاعة تعيد للدولة دورها في التخطيط والعدالة، وتعيد للاقتصاد قدرته على التشغيل، وللمجتمع شبكات الحماية من التهميش والإقصاء.