يبدو أن جلّ دوله باتت تعيد ترتيب أولوياتها، ومن ذلك ما أقدمت عليه كل من المملكة العربية السعودية وجمهورية باكستان من خطوة تمثلت في توقيع اتفاق الدفاع المشترك بين القوة المالية والنفطية وبين القوة النووية – خطوة تكشف عن بداية مرحلة جديدة في الأمن الإقليمي، تتسم بقدر أكبر من الاعتماد على الذات وعلى تحالفات إقليمية والانفكاك التدريجي عن المظلة الأمنية الغربية، وتحديدًا الأمريكية.
هذا الاتفاق، استُقبل من قبل البعض على أنه تطور استراتيجي غير مسبوق في تاريخ العلاقات السعودية–الباكستانية وبشكل أعم العلاقات الخليجية–الآسيوية، من منطلق أنه يتجاوز التعاون العسكري إلى بناء شراكة أمنية شاملة متكاملة بين البلدين، تشمل تبادل المعلومات، وتنسيق الدفاعات، وربما شراكة في الردع النووي غير المُعلن. وهو ما يفرض على المنطقة والعالم تساؤلات عميقة عن مآلات السياسة الأمنية خاصة لدول الخليج التي كانت لعقود تراهن على الحماية الأمريكية شبه المطلقة.
فمنذ ما بعد حرب العراق الثانية، وما شهده الشرق الأوسط أو الشرق الأدنى من تطورات ومتغيرات كانت الولايات المتحدة المساهم الأكبر فيها، وصولًا إلى الاستراتيجية الأمريكية الجديدة القائمة على احتواء خطر الصين والسيطرة على المحيط الهادئ، وما رافق ذلك من سياسات أمريكية في منطقة الخليج والشرق الأوسط، بات الفاعلون والنخب السياسية والعسكرية في دول الخليج يطرحون سؤالًا مركزيًا وهو: هل إن واشنطن لا تزال ترى الشرق الأوسط أولوية أمنية وبالتالي تحرص على توفير أمن حلفائها كما في السابق؟ أم أنها تراجعت عن هذه الرؤية ومعها تراجع التزامها بأمن دول الخليج؟
نقاش فُتح قبل اعتداءات الاحتلال وقصفه للدوحة، إذ منذ عقد من الزمن باتت الأصوات في الخليج تنادي بالتفكير الجاد في الشراكة الدفاعية لدول مجلس التعاون الخليجي مع الولايات المتحدة الأمريكية، التي لم تكتفِ اليوم بغضّ البصر عمّا تتعرض له دول الخليج من مخاطر أمنية بل باتت تتبنى خطاب «توزيع الأعباء»، أي باتت تطالب دول الخليج بدفع ثمن هذه الشراكة التي لم تحل دون قصف الحوثيين لعدة مدن خليجية ولا ضمنت الأمن والاستقرار للمنطقة.
نقاش قُدمت فيه تصورات لبدائل أو لشركاء جدد لدول الخليج، لا من منطلق تنويع الحلفاء العسكريين أو بناء تحالفات جديدة، بقدر ما هو تنويع الأصدقاء والبحث عن بناء علاقات تسمح لدول الخليج بهوامش من الحرية. وقد تُوّج هذا بتقارب خليجي–صيني خلال السنوات القليلة الماضية سمح للصين بأن تلعب دور الوسيط في المفاوضات السعودية–الإيرانية التي انتهت إلى اتفاق خفض التوتر بينهما.
لكن هذه الخطوة التي قطعتها السعودية باتفاق دفاعها الاستراتيجي مع باكستان تنقلنا إلى مربع مغاير عن التقارب الصيني، فنحن إزاء تطور ملحوظ يعكس توجهًا سعوديًا واضحًا إلى توفير بدائل أمنية لاستباق أي مراجعة أو فراغ محتمل في الضمانات الأمنية الغربية، وهو ما يكشف عن أن المملكة باتت اليوم في طور جديد تبحث فيه عن تأسيس جبهة درع. وما يعزز ذلك هو ما نُشر من معطيات عن توجه سعودي–مصري لإنشاء قوة مشتركة، ستكون هي الأخرى إحدى أدوات الردع بيد السعودية والخليج من خلفها.
هذا الاتفاق الذي ينتقل من التحالف السعودي–الباكستاني القائم منذ عقود على التعاون الاقتصادي والعسكري بالإضافة إلى الروابط الثقافية والدينية، إلى تحالف استراتيجي بين دولة نفطية كبرى ودولة نووية تتشاركان عديد القواسم، هو الحدث الأكثر أهمية اليوم في المنطقة والعالم. والسبب في ذلك بشكل معلن وصريح هو هذا البُعد النووي في هذا التحالف، أي فرضيات توظيف باكستان لقوتها النووية لخدمة دول المنطقة بما يسمح بإنشاء «مظلة ردع نووية مشتركة».
وهو ما يحث آليًا على طرح سؤال مركزي وهو: هل إن هذا الاتفاق يمثل بداية تفكك للمظلة الأمنية الأمريكية في المنطقة أم هو مجرد أداة بيد دولها لتحسين شروط التفاوض مع واشنطن؟
الإجابة هنا تحددها عدة عناصر، وأولها تحديد الجهة التي تستهدفها هذه الاتفاقية: إيران أم الاحتلال؟ وأية حدود لهذه الاتفاقية وللالتزامات بين الدولتين تجاه بعضهما البعض؟ وهل إن دول المنطقة حسمت قراءتها للدور الأمريكي وقررت تغيير استراتيجيتها؟ وهنا قد تكون الإجابة الواضحة أن دول الخليج، وخاصة السعودية اليوم، ليست في مرحلة مراجعات كبرى لخياراتها، وهو ما يعني أن السعودية كما باقي الدول قد لا تسعى اليوم إلى استبدال المظلة الأمريكية، بل إلى إعادة صياغة العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية على أسس تخدم مصالح المملكة أو دول الخليج أكثر. وهو ما من شأنه أن يشرح الكثير عن هذه الاتفاقية ويجعل منها رسالة سياسية أكثر من كونها تغييرًا كبيرًا في الاستراتيجيات