التي أعلنت عنها الهيئة الادارية للاتحاد العام التونسي للشغل احتجاجا على استهداف مقر المركزية النقابية المفعم بالرموز التاريخية من قبل أشباه ميليشيات تعتقد أنه يحق لها «تأديب» منظمة حشاد.
من يعرف تاريخ الاتحاد (والذي يحتفل في جانفي القادم بعيد ميلاده الثمانين) يدرك أن التصادم والتعاون والتنافس كانت العناوين الأساسية التي ميزت علاقة المنظمة الشغيلة بالسلطة السياسية على امتداد العقود السبعة للدولة الوطنية وأن البلاد لم تجن قط خيرا من أي صدام سابق مهما كان حدّته ومهما كان امتداده..
هل نحن على أبواب صدام جديد؟ البعض يتمناه نكاية في الاتحاد والبعض الآخر نكاية في السلطة السياسية و العديدون يخشونه ويخشون عواقبه على السلم الاجتماعي إذ تدل كل المؤشرات، لو حصل هذا الصدام، أنه لن يكون على منوال سابقيه وأنه سيفتح الأبواب على مجاهيل لا أحد قادر اليوم على توقعها..
لا شك أن سلطة 25 جويلية لا تحب الأجسام الوسيطة ولا ترى لها من دور في هذه المرحلة التاريخية، والاتحاد العام التونسي للشغل هو الجسم الوسيط القوي والمهيمن على امتداد كامل تاريخ البلاد المعاصر.. وكان واضحا لدى كل عقل حصيف أن المساندة النقدية لـ25 جويلية لا ولن تجعل الاتحاد في صفوف «الوطنيين الصادقين» لأن الاتحاد كهيكل نقابي وكحجم وسيط وكفاعل سياسي أساسي في تناقض تام مع مقتضيات البناء القاعدي وأن المناخ السياسي الجديد لن يسمح له بلعب دور يذكر حتى في أضيق مربع ممكن أي التفاوض الاجتماعي مع الدولة، فالدولة الاجتماعية كما تتصورها سلطة 25 جويلية لا تمنح الشغالين والمحرومين حقوقا وامتيازات نتيجة ضغوطات نقابية بل لأنها بطبيعتها أحرص على مصالح العمال من تلك الهياكل التي تدعي تمثيلهم وهكذا يكون إصرار اتحاد الشغل على لعب دوره الأدنى بمثابة التمهيد الموضوعي لصدام قادم وذلك أيا كان موقف المنظمة الشغيلة من 25 جويلية ومن السياسات العمومية التي انبثقت عنه..
هل أخطأت قيادة الاتحاد في تقدير الموقف الأصلي؟
وهل أساءت التعامل مع التحولات السياسية المتسارعة في البلاد وخاصة خلال السنتين الأخيرتين حين تصاعدت وتيرة الإيقافات والمحاكمات التي شملت أجسام وسيطة عدة من أحزاب وجمعيات وإعلاميين ومواطنين.. هل كانت سياسة «النضال الصامت» صائبة أم مصيبة على الاتحاد والبلاد؟
لا يعتقد عاقل واحد أن القيادات النقابية المتعاقبة منزهة عن الخطإ وأنها أحسنت دوما التصرف منذ الثورة الى اليوم.،
إن من يعرف قليلا دواخل المركزية النقابية يدرك أن النقد الداخلي لسياسات الاتحاد ولمواقفه لاذع جدا ونابع من الإطارات العليا في المنظمة..
يمكن أن نقول أن اتحاد الشغل، ككل الأجسام الوسيطة وككل الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والمثقفين، لم يقدر، دوما بما يكفي هشاشة الانتقال الديمقراطي والمخاطر المحدقة به داخليا وخارجيا.. ولعله لم يترفق به في مراحل معينة، كما تعنتت بعض هياكله، أو بالاحرى قيادات بعض هياكله المغرمة بشعار «الاتحاد الاتحاد أقوى قوة في البلاد» قد أضرت كثيرا بصورة الاتحاد وبعلاقته بسائر المواطنين بما رسم في الأذهان صورة سلبية للغاية لا فقط على النضال النقابي ولكن الانتقال الديمقراطي ككل.. ان ما اقترفته القيادة النقابية لسلك التعليم الثانوي سيبقى درسا لكل النقابيين ولكل التونسيين في تغليب النظرة الحزبية الضيقة على المصلحة الوطنية قبل وبعد 25 جويلية..
يمكن لنا أن نعدد أخطاء القيادات النقابية المتعاقبة على امتداد هذا العقد ونصف العقد.. ولكن من منا كان دون أخطاء؟ وكما قال المسيح من كان منكم دون خطإ فليرم الحجرة الأولى..
لا أحد يتمنى أن يكون مكان القيادة النقابية في أوقات الأزمات الكبرى اذ لا يوجد في تلك الفترات قرار واضح يحمي المنظمة «الشقف» كما كان يقول الزعيم الكبير الحبيب عاشور ويدافع عن الأهداف السامية الاجتماعية والسياسية.. لقد كانت قيادة الاتحاد تحت ضغط مستمر.. ضغط التوازنات الداخلية المتقلبة أحيانا وضغط انتظارات الرأي العام الديمقراطي والضغوط المختلفة للسلطة السياسية بالاضافة الى سلطة الأعراف في القطاع الخاص.. صحيح أنه بعد انهيار نظام بن علي أصبح الاتحاد، موضوعيا، هو القوة الأبرز في البلاد وأن بعض الغرور قد يكون ركب بعض الرؤوس ولكن نظلم الاتحاد ونظلم الحقيقة لو لم نضع في الحسبان باستمرار المعادلات المعقدة التي تعاملت معها مختلف القيادات النقابية والتأليف الصعب - وأحيانا المستحيل - بين مواقف وآراء مختلف مكونات هذه المنظمة..
ولكن كيف ننسى أن الاتحاد كان القوة الأكبر والأبرز لحماية الانتقال الديمقراطي من انحرافات خطيرة.. انحرافات استبدادية اسلاموية ظنت أن البلاد أضحت ملكا لها وانزلاق محتمل نحو العنف.. يكفي الاتحاد فخرا أنه منع هذين الانحرافين الكبيرين ويلام أيضا لأنه لم يكبح بما فيه الكفاية ومنذ البداية الذين لعبوا داخله أدوارا تخريبية نجني ثمارها السيئة اليوم، ولكن كما يقال «المتفرج فارس» وموازين القوى الداخلية الهشة لم تكن تسمح دوما بموقف قوي رغم الرغبة الصادقة لقيادات نقابية كثيرة..
لقد لعبت ثنائية «الشقف» والهدف دورا واضحا في التراجع النسبي لأداء القيادة النقابية بعد 25 جويلية نظرا للانقسام الكبير داخل المنظمة في تقييم هذه السنوات الأخيرة وخاصة كذلك لغياب الأطر الكلاسيكية التي سمحت دوما للاتحاد بلعب دوره الاجتماعي مع كل حكومات الدولة الوطنية وللعب أدوار سياسية تارة هجومية وأخرى دفاعية منذ الاستقلال إلى حدود سنة 2021..
اليوم قد يحصل صدام جديد مع السلطة ليس احتجاجا على الدور السياسي للمنظمة كما يدعيه بعض المهوسين بل رفضا للحد الأدنى من دورها الاجتماعي واعتبار أم كل إضراب قطاعي هو ضرب من «الخيانة» الوطنية..
هذا الصدام - ان حصل - لم يسع إليه الاتحاد مطلقا وأيا كان النقد الذي يمكن أن يوجه للقيادة الحالية فلا ينبغي أن ينخرط أحد في ضرب أحد أهم قلاع تونس الحديثة.. الاتحاد ككل منظمة ديمقراطية يتم اصلاحه من داخله وفق رغبة منخرطيه وموازين القوى الفكرية والسياسية داخله والتضامن معه اليوم واجب أخلاقي ووطني ينبغي أن يترفع على كل ضغائن الماضي والحاضر