« أربعَ سنين تعدّو» الحصيلـة والمـآلات

مرت على تونس أربعة سنين من الإجراءات الاستثنائية

التي أقدم عليها رئيس الدولة قيس سعيّد ذات 25 جويلية 2021.. إجراءات نعيش على وقعها وفلسفتها وتجلياتها إلى يومنا هذا..

لا شك أن التونسيين منقسمون في توصيف ما حدث فبعضهم يراه انقلابا وآخرون تصحيحا لمسار الثورة وما بينهما تتوزع المواقف والمواقع..

التوصيف مهم للغاية لأنه يتعلق بالمبادئ والقيم وهي محرار كل شيء في النهاية ولكن تقييم الحصيلة لا يقل أهمية لأن العبرة في السياسة - كما في الرياضة - هو بالنتائج أولا وأخيرا.. أي حصيلة لممارسة الحكم في تونس في هذه السنوات الأربعة الماضية؟

لو أردنا أن نلخص لحظة 25 جويلة 2021 من وجهة نظر القائم بها لقلنا بأنها تأسست على فكرة أن الثورة التونسية التي انطلقت من الدواخل في 17 ديسمبر 2010 قد غدرتها النخب - كل النخب - في 14 جانفي 2011 وأن كل ما حصل خلال العشرية الأولى للانتقال الديمقراطي ما هو الا مواصلة لغدر الثورة وخيانتها ولذا توجب الأمر أن تُفتك القيادة من هذه النخب الفاسدة (والنخب فاسدة بطبعها في هذا التصور) وارجاعها إلى صاحب السيادة الوحيد: الشعب.

لقد حصلت خطوات عديدة في النصف الأول من هذا التوصيف اذ أصبحت كل هذه النخب (السياسية والجمعياتية والحقوقية والنقابية والاقتصادية والإعلامية) محل متابعة قضائية، متابعات لم تشمل بالطبع كل أفراد هذه النخب ولكنها لم تترك نخبة دون تتبع تحت عنوان محاسبة كل من انخرط في «العشرية السوداء» باعتبارها بداية التجاوز والتمهيد الضروري للعبور.

من هذه الزاوية يمكن أن نعتبر أن 25 جويلية قد غيّر بصفة جذرية المشهد السياسي العام في البلاد وذلك بالتضييق المستمر والمنهجي على كل فضاءات التاداول العمومي وعلى كل أشكال التنظم السياسي والمدني وهنا تفقد كل الأجسام الوسيطة يوما بعد آخر مساحات العمل والتأثير، وما نراه من استمرارية الاحتجاج والمعارضة انما هو محاولة لغلق قوس 25 جويلية لا تفاعلا جدليا معه..

ولكن بعد اقصاء النخب من الفضاء العام ومن الموسسات ومن مجالات التأثير هل عاد الحكم إلى صاحب السيادة الوحيد: الشعب؟ كان المؤمل أن يلعب البناء القاعدي هذا الدور ولكن المؤسسات التي انبثقت عنه ساهمت في مركزية السلطة وفي تعميق نوع من المفارقة (transcendance) بينها وبين المجتمع والاحتكاك مع المواطنين وعلى عكس الظاهر يدعم هذا المنحى «المفارقي» إن جازت العبارة.

لكن المهم في تقييم الحصيلة ليس فقط رغبة الفاعل السياسي بل انتظارات عموم الناس من كل حكم أيا كانت توجهاته ومنطلقاته، وانتظارات عموم التونسيين لا تشذ عن انتظارات كل شعوب الدنيا: تحسن القدرة الشرائية وجودة الحياة المادية والمعنوية، والناس لا يطالبون بالمستحيل ولكن يريدون رؤية هذا التحسن في محيطهم اليومي وفي وضع البلاد بصفة عامة..

ما الذي تم انجازه في هذاالمستوى على امتداد هذه السنوات الأربعة؟

لو عمدنا إلى المؤشرات الكمية الكبرى كنسب النمو والبطالة والتضخم والعجز التجاري.. لقلنا أن تونس من البلدان القلائل جدا في العالم التي لم تتمكن، إلى حدّ اليوم، من بلوغ مستوى 2019 من حيث الناتج المحلي الاجمالي..

سنة 2020 كانت كارثية على كل بلدان العالم ولكن الغالبية الساحقة تلافت هذه النتائج في أقل من سنتين.. أما نحن فلا، وهنا يطرح سؤال كبير: لماذا عجزنا على القيام بما قامت به جلّ بلدان المعمورة؟

يبدو لنا أن الاجابة الأقرب للواقع هو أن 25 جويلية لم يبحث علىمسارعة خطى عملية الانتاج بل على تغيير علاقات الانتاج. بعبارات أوضح كان بالامكان استغلال تجميع كل السلط لاعطاء دفع قوي لنسق النمو تماما كما حصل في عمليات التلقيح المكثف خلال شهر أوت 2021 ضد فيروس «الكوفيد»..

لو عملت تونس على الترفيع القوي في نسق الانتاج الفلاحي والصناعي والاستخراجي والخدماتي لحققنا نسب نمو تفوق بوضوح 5 ٪ ولكن هذا الخيار لم يكن يناسب حلم 25 جويلية باستئناف ثورة الدواخل ضدّ النخب لأنه قد يزيد في ثراء الأثرياء بينما المطلوب هو تحويل وجهة الثروة لتحقيق أهداف الثورة وأن الطريق السالكة سيعبدها الصلح الجزائي وستؤثثها الشركات الأهلية..

الواضح أن هذا الخيار قد أضاع فرصة ثمينة على اقتصاد البلاد وقلل كثيرا من امكانيات الاستفادة من انتعاش الاقتصاد العالمي خاصة في سنتي 2021 و 2022.

المحصلة الموضوعية الوحيدة اقتصاديا واجتماعيا هي استمرار النمو الهش للبلاد (4،1 ٪ في 2021 و 2،4 ٪ في 2022 و 0،4 ٪ 2023 و1،4 ٪ في 2024) ومواصلة ارتفاع نسبة البطالة (15،7 ٪ وفق آخر تحيين في سنة 2025)..

لا شك أن هنالك جوانب أخرى كثيرة في المحصلة تستحق التوقف عندها ولكننا قصرنا نظرنا فقط على السياسي والاقتصادي ولكن يبقى السؤال الأهم: ما هي المآلات الممكنة؟ وأيضا ما هي قراءة السلطة السياسية لمحصلة هذه السنوات الأربعة؟ فهل ترغب في المضي في نفس النهج بل وتعميقه أم أنها تريد ادخال تعديلات طفيفة أو هامة عليه لتتجاوز مواطن النقص الواضحة للعيان؟

الحكمة تقتضي مراجعة جذرية للخيارات المتبعة لأنها أدت إلى المزيد من الانغلاق السياسي مع عطالة واضحة اقتصاديا واجتماعيا.

دون انفتاح ودون تشاركية لن تتمكن بلادنا من مواجهة التحديات الداخلية والخارجية والمخاطر المتسارعة في هذا العالم المجنون..

الإصلاح ممكن دوما ولكن كل تأخير يزيد في كلفته على البلاد والعباد

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115