في إيران انتقلت الولايات المتحدة من موقع الاسناد الاستراتيجي للكيان المحتل في كل حروبه في المنطقة إلى موقع المساهم المباشر في هذه الحرب التي شنتها الدولة العبرية على إيران منذ عشرة أيام.
لا أحد يمكنه اليوم التكهن بمآلات هذه الحرب العدوانية الجديدة وكونها غير مسبوقة بكل المعايير على أطراف النزاع خاصة ومنطقة الشرق الأوسط وبقية مناطق المعمورة بصورة عامة..
وحدهم السذج كانوا يعتقدون أن العلاقات الدولية يحكمها القانون الدولي وأن الحروب التي تشن بين الفينة والأخرى محكومة بدورها بالقانون الدولي الإنساني إذ لم يغب لحظة واحدة منطق القوة بين الدول لا اليوم ولا البارحة ولكن تم التسويق بعيد الحرب العالمية الثانية لفكرة تعويض منطق القوة الغاشمة بمنطق الحق وبتنظيم العلاقات الدولية وبحلّ النزاعات الممكنة على الاعتماد على هياكل ومؤسسات ما يسمى بالمجموعة الدولية..
ولكن ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية لم تخضع دولة كبرى واحدة لمنطق القانون الدولي الا عندما تكون مكرهة أو أن موازين القوى الدولية لم تعد في صالحها ولكن هنالك دولتان لم تخضعا في أي لحظة وفي أية مناسبة لمقتضيات القانون الدولي وهما الولايات المتحدة الأمريكية والكيان المحتل، ولم تتمكن أية قوة في العالم - وجلّها لا يرغب في ذلك - في لجم الاعتداءات المتكررة لهاتين الدولتين وخاصة للدولة العبرية المتوسعة دوما في هذا الكيان الاستعماري الاستطاني الاحلالي واليوم المتورط بوضوح في جريمة ابادة جماعية.
صحيح أن الحق غير المسنود بقوة يضيع دائما ولكن بين هذا وبين عالم القوة الفجّة والبلطجة الدولية فروق تم الآن تجاوزها كلّها.
منذ حرب الابادة في غزة سقط النظام الدولي أخلاقيا وقيميا وهذا السقوط مؤذن بسقوطه سياسيا وعمليا ولو بعد حين اذ اتضح لكل عاقل نزيه أن هذا النظام الدولي لا يستند إلا للقوة الفجّة والتي تستعمل للدفاع عمّا تعتبره الدول الكبرى مصالحها الاستراتيجية وأن اليوم هنالك دولة كبرى وحيدة لها امكانية استعمال هذه القوة في مختلف أرجاء المعمورة ونقصد بها الولايات المتحدة الأمريكية كما أن البلطجة الدولية مسموح بها فقط لدولة الكيان المحتل بدعم كل من كبريات الدول الغربية ولاسيما تلك التي مازالت تعيش ذهنيا على مخيال امبراطورياتها الاستعمارية، والغريب أن كل هذه الدول الغربية تدعي أنها انما تفعل ذلك حفاظا على الأمن والسلم الدوليين!!
هنالك ولا شك دول وشعوب في العالم لا تعتبر نفسها معنية بهذه الحروب ذات البعد الكوني فإما أنها تتمتع برفاهية تحجب عنها هذه الصورة البشعة أو أنها ترزح تحت نظم استبدادية يضاف اليها شغف العيش بما يحدّ كثيرا من سقف انتظاراتها ولكن كل الدول الصاعدة فيما يسمى بالجنوب الكلي تدرك منذ عقود هذه الحقائق البسيطة وهي تعمل - بوسائل مختلفة - لاستغلال كل الفرص التي تتيحها العولمة الاقتصادية مع الاستعداد للأسوإ من جراء سيادة هذه القوة الغاشمة.
الكل يعلم أن النظام الدولي الحالي يرتكز فقط على التفوق العلمي والتكنولوجي والعسكري الأمريكي وأن التراجع النسبي لهذا التفوق في هذه الميادين بالذات سيفتح العالم على أبواب جهنم وستشتعل حروب كثيرة في عدة جهات لأن لا أحد يمكن أن يتخيل استعداد الولايات المتحدة لخسارة هذه الريادة بكل روح رياضية.
لو عدنا الى منطقنا في سياق هذا الانهيار الاخلاقي والقيمي للنظام الدولي الحالي لقلنا بأن بلطجة الكيان المحتل وحرب الابادة التي يشنها اليوم على الفلسطينيين والحرب الغاشمة على إيران التي لا يحق لها تخصيب الأورانيوم بينما يحق له امتلاك رؤوس نووية تهدد كل دول الجوار.. هذه البلطجة ستدوم مادمت الدولة العبرية.
لا نعلم كما قلنا ما هي مآلات هذه الحروب على إيران ولكننا نعلم أن كل دولة عربية أو إسلامية تقع على شعاع 3000 كلم على الكيان المحتل هي مهددة اليوم بالقوة لاسيما إن فكرت في برنامج تسليح بالستي ( أي صاروخي) فضلا عن مجرد الهمس ببرنامج نووي حتى لو كان لأغراض سلمية خالصة.
إن العقيدة الأمنية للكيان المحتل تقوم على الضرورة الحيوية لتفوقه العسكري المطلق على كل المستويات وعلى كل الدول التي يمكن أن تشكل اليوم أو غدا تهديدا ما لوجوده.
ولكن التفوق العسكري الصهيوني المطلق لا ينجم من الامكانيات الذاتية للدولة العبرية بل من اسنادها الكلي من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وهذا يخلق معادلة رهيبة داخل الاحتلال: التفوق المطلق في منطقة الشرق الأوسط مرتبط كليا بالتفوق الأمريكي المطلق في العالم، فإن تراجع هذا الأخير ولو نسبيا سيتراجع الأول حتميا..
عندما تهيمن القوة الفجّة في العالم فهي لن تكون دائما في اتجاه واحد
غدا: صراع الحضارات وانهيار القيم الكونية