من المواجهة بين إيران والاحتلال، برز موقف روسي غير مسبوق في دلالاته، فإن كان الخطاب الروسي حمل في ظاهره تحذيراً لواشنطن من مغبة تقديم أي دعم عسكري مباشر للاحتلال، مشدداً على أن مثل هذا الخيار قد يؤدي إلى انزلاق خطير يهدد استقرار المنطقة بأكملها، فإنه وبشكل غير مباشر يعلن أن زمن استئثار الولايات المتحدة بمصير المنطقة لم يعد ممكناً، وأن أية خيار تتخذه سيكون له ثمن استراتيجي باهظ.
هذا الموقف، الذي عبّر عنه نائب وزير الخارجية سيرغي ريابكوف بقوله: «تحذّر روسيا الولايات المتحدة من تقديم أي مساعدة عسكرية مباشرة للاحتلال... فهذا إجراء من شأنه أن يزعزع استقرار الوضع برمّته بشكل جذري»، لا يمكن أن يُختزل على أنه امتداد لخطاب الدبلوماسية الروسية التقليدي، الذي أبدى في محطات عديدة اعتراض موسكو على خيارات أمريكية، وتجاوب معها في أخرى، فهو تجاوز ليعكس ضمنياً تحولاً في حسابات موسكو، التي تدرك أنها لن تستطيع هذه المرة تحمّل ثمن إدارة الظهر لإيران أو التخلي عنها مباشرة في ظل ارتفاع مستوى التهديدات في المنطقة، التي باتت أمام شبح حرب إقليمية متعددة الجبهات، ستطال تداعياتها روسيا ومساحات نفوذها الحيوية.
فروسيا تدرك أن التدخل الأمريكي العسكري المباشر، آجلاً أم عاجلاً، ستطالها ارتداداته والتي تصبح أعنف وأشد إن انهار النظام الإيراني وحلّ عوضاً عنه الفوضى أو نظام موالٍ للتحالف الغربي، هذا بالنسبة لروسيا خطر لا يمكن القبول به، لذلك فإن التحذير الروسي يكتسب بعداً إضافياً حين يُوضع في سياق الصورة الكبيرة.
مخاوف موسكو تدركها واشنطن، التي تقول جل المؤشرات الآتية منها إنها مترددة في حسم قرارها بشأن التدخل العسكري من عدمه في علاقتها بإيران، وهي تؤجل الحسم إلى نهاية هذا الأسبوع أو مطلع الأسبوع القادم، وفق ما تنقله كبريات وسائل الإعلام الأمريكية التي تناقلت أخبار هذه المهلة الزمنية، وكشفت بشكل غير مباشر عن المأزق الذي تواجهه إدارة ترامب بين الضغط السياسي لدعم الاحتلال وردع إيران، والمخاوف من التورط في صراع مفتوح لا يمكن التنبؤ بنهاياته، خاصة وأنه صراع على مشارف خصمين: روسيا والصين.
خصمين تتجنب إدارة ترامب اليوم التورط معهما في صراع مباشر ومفتوح، وهو ما تبينه المعطيات التي نقلها الصحفي الأميركي بيل أورايلي، المقرب من الرئيس ترامب، بكشفه عن مضمون رسائل نصية بينه وبين الرئيس جاء فيها أن الأخير «لا يرغب في استخدام القوة الجوية حالياً» نظراً إلى التعقيدات المحتملة مع روسيا والصين. ليكشف الصحفي عن تحول في المزاج السياسي داخل دوائر القرار الأميركي، من منطق الحسم بالقوة إلى منطق احتواء التصعيد.
احتواء تدفع باتجاهه الإدارة الأميركية التي تراقب مواقف بقية القوى الدولية، وعلى رأسها الصين التي تستمر في تبني خطاب دبلوماسي حذر يدعو إلى التهدئة، مشددة على «ضبط النفس»، مع انتصار ضمني لإيران بإشارتها لحقها في الدفاع عن النفس. أما الاتحاد الأوروبي، فرغم تبنيه لسردية حق الاحتلال في الدفاع عن النفس، إلا أنه يدفع إلى التهدئة وتفادي جرّ المنطقة إلى حرب مفتوحة ستكون تداعياتها المباشرة على أوروبا، سواء كانت اقتصادية أو على شكل موجة من الهجرة واللجوء.
هنا يتضح لنا من مواقف القوى الكبرى، أن هناك ما يشبه الفيتو الجماعي غير المعلن. روسيا تعبر عنه صراحة، الصين تلوّح به بلغة المصالح، وأوروبا تحذّر منه بلغة الخوف من الانفجار. حتى داخل الولايات المتحدة، تبرز أصوات معارضة من الكونغرس ومراكز التفكير، تطالب بعدم الانجرار إلى مواجهة لا تتوفر لها خطة خروج واضحة، وتحذر من توجيه ضربة من دون ضمانات سياسية وعسكرية طويلة الأمد. وهو ما يجد صدى لدى الرأي العام الأميركي، الذي بات أقل تقبّلاً لأي تدخل خارجي جديد، في ظل أزمات اقتصادية متفاقمة وتصدّع اجتماعي داخلي.
كل هذا يكشف أن ما تشهده المنطقة اليوم لا يمكن اختزاله في تصعيد عسكري ثنائي بين إيران والاحتلال. فهو أقرب إلى كونه عنواناً لمرحلة جديدة من إعادة ترسيم النفوذ بين القوى الكبرى، ومحاولة لكسر احتكار واشنطن للهيمنة والنفوذ في منطقة الشرق الأوسط.
وهو ما يجعل من القرار الأميركي المنتظر بشأن المواجهة العسكرية، قراراً هاماً لا فقط في علاقة بالحرب ومآلاتها في ظل تهديد إيران بالتصعيد، بل لأنه سيجيب عن إذا ما زالت واشنطن قادرة على فرض قواعد اللعبة بمفردها أم أننا أمام تحول قد انطلقت لحظته.
وهو ما يُرجّح أن ما يجري ليس مجرد اختبار لإرادة الأطراف المتصارعة، بل هو لحظة مفصلية في انتقال العالم من نظام أحادي القطبية إلى مشهد دولي أكثر اضطراباً. القرار الأميركي لم يعد شأناً داخلياً، بل أصبح مؤشراً على مستقبل ميزان القوى الدولي، وعلى قدرة واشنطن على الاحتفاظ بدورها كقوة مهيمنة في العالم، دون أن تجرّه إلى فرضيات تلتقي جلّها عند نقطة إعادة تشكيل التحالفات، وتقويض ما تبقى من ترتيبات أمنية جرى تثبيتها منذ ما بعد الحرب الباردة.
وهذا سر الفيتو الجماعي الاستراتيجي الذي ترفعه القوى الكبرى على واشنطن في هذه اللحظة. لحثها على عدم المغامرة والذهاب إلى تدخل عسكري مباشر سيكون بمثابة مقامرة غير محسوبة، ستسرّع من وتيرة تفكك النظام الدولي الراهن، واحتدام التنافس بين قوى تسعى إلى إعادة تعريف حدود النفوذ والمصالح، وأخرى تحاول التمسك بما تبقى من دورها