إثر نشر المحامية رحاب السماعلي لتدوينة أعلنت فيها أن منوّبها، ذو الـ19 سنة، يُشتبه في تعرّضه للتعذيب في أحد سجون ولاية بنزرت. تدوينة لم تكتفِ بإطلاق صيحة فزع، بل كشفت عن أزمة أعمق وجدَلٍ بين وزارة العدل والمحامين حول حقيقة ما وقع، لنكون أمام سؤال جوهري لا بد من الإجابة عنه: هل ندرك أهمية البحث عن الحقيقة دون تبرير أو إنكار؟
أصبحنا في تونس خلال السنوات الأخيرة، نغوص، في كل مرة تتكشّف فيها قضية تعذيب داخل المؤسسات السجنية، في طرح جملة من الأسئلة التي تتكرر دون إجابة حاسمة كلما تعلق الأمر بشبهات تعذيب أو سوء معاملة، مما يجعل من طرح سؤال «ما مدى استعدادنا لكشف الحقيقة؟» سؤالًا متجدّدًا.
في ظل عدم الكشف عن مصير التحقيقات التي أُثيرت في شبهات تعذيب وسوء معاملة، في السجون أو في مراكز الاحتجاز، وفي ظل إنكار رسمي كان يروّج الى ان هذه الممارسات «ممارسات فردية» وبات اليوم ينكر مباشرة وقوع أي تجاوز، مما ادى الى الوقوع في التجاذب والجدل السياسي الذي يحول بيننا وبين معرفة الحقيقة التي يجب أن تُكشَف في مثل هذه الملفات.
ما أثارته المحامية من وجود شبهة تعذيب طالت منوّبها الموقوف، وموجة الجدل والبيانات المتناقضة بين وزارة العدل وعمادة المحامين، تضعاننا أمام اختبار حقيقي يتعلّق بمدى قدرتنا على القطع مع سياسة الإفلات من العقاب، وتكشف أن مؤسساتنا التي لم تتمكن بعد من تقنيات إدارة الأزمات اتصاليًا، ولم تتحصّن من كل ممارسة من شأنها أن توحي أو تغذي ثقافة الإفلات من العقاب، اما بإنكار الواقع أو بتبريره.
هذه القضية التي كشفتها المحامية رحاب السماعلي وقدّمت تفاصيلها، في تدوينتها على حسابها الشخصي على منصة التواصل الاجتماعي أو في تصريحاتها أمس الاثنين للإذاعة الوطنية، عناصرها كالتالي: محامية تبيّن أنها عاينت آثار ضرب على جسم منوّبها السجين، وتحدثت عن وجود آثار لكدمات في الظهر وفي الرقبة، وحروقًا في يديه، مما دفعها إلى مطالبة إدارة السجن بعرضه على الطبيب الشرعي، لكن الأخيرة رفضت طلبها.
ما اعلنته المحامية يجعلنا إزاء شبهة تعذيب أو سوء معاملة قد يتعلل البعض بأنها حادثة فردية سُجلت حوادث مشابهة لها في تونس خلال السنوات الماضية. لكنه يغفل عن أنه في تلك القضايا المشابهة، تعذر فيها مسار كشف الحقيقة بشكل شفاف يفضي إلى محاسبة المذنبين، إذا ثبتت شبهة التعذيب وسوء المعاملة، مما سمح بتكرار الحوادث الفردية التي انتشرت في ظل شبهة استشراء ثقافة الإفلات من العقاب، مما يهدد بأن ننتقل من أخطاء فردية وحوادث معزولة إلى ما يشبه «التعذيب المؤسسي»، الذي اذا مارسه أفراد دون توجيهات أو تعليمات يتمتعون بحصانة وعدم مساءلة، مما يجعل الدولة نفسها متورطة بشكل غير مباشر بسبب غياب المحاسبة والرقابة الفعّالة.
الخشية أننا، في قضية الحال، أمام تناقضات حادّة أثارتها وزارة العدل في بيانها الذي سارع إلى نفي الواقعة دون اتباع الإجراءات المعتمدة في مثل هذه القضايا، من فتح تحقيق وعرض المشتبه في تعرضه للتعذيب على الطبيب الشرعي، والسماح لهيئات رقابية ومنظمات حقوقية بزيارته، بحضور محاميته أو من ينوبها.
أي أننا أمام تكذيب سارعت وزارة العدل في نشره قبل أن تستكمل التحقيق بكل شفافية وتنشر نتائجه، وهو ما يثير عدّة أسئلة عن سبب ذلك ودوافعه.
البلاغ الصادر عن الوزارة استوجب ردًا من عمادة المحامين، التي انتقدت ما أتته الوزارة، بتعجيلها بنفي وقوع شبهة التعذيب، بل وانتقدت عدم احترامها للإجراءات المعمول بها في مثل هذه القضايا، وعرض السجين المشتبه في تعرضه للتعذيب على الطبيب الشرعي، ودافعت عن المحامية المنتسبة للعمادة، واعتبرت أنها قامت بمهمتها وأدّت واجبها بإشعار السلطات بشبهة التعذيب، وعليه وجب على الأخيرة أن تتحرك وتكشف الحقيقة بكل شفافية ونزاهة.
هذا جعل ما يمكن تسميته بـ«قضية التعذيب في سجن بنزرت» تتجاوز الأطر الخاصة بها، من شبهة تعذيب أو سوء معاملة يمكن أن تكون حادثة فردية، إلى شبهة أننا أمام تكرار لخطإ عدم كشف الحقيقة ومحاولات طمسها، وهو مما يجعل منها جزءًا من مشهد أوسع عنوانه شبهة «التعذيب المؤسسي» الذي تمارسه الدولة بشكل غير مباشر.
إن غياب المساءلة قد يتحول، لا قدر الله، إلى سياسة عامة تشجع على الإفلات من العقاب، الذي يُعدّ بدوره جريمة ويشكّل تهديدًا لقيم المواطنة ودولة القانون، التي تحمي الحقيقة وتبحث عنها، لا عن التبرير.
اليوم، لا بد أن تُكشف الحقيقة، في هذه القضية أو في القضايا المشابهة لها، وذلك يرسم لنا الطريق نحو القطع مع الانتهاكات، ويعزّز الثقة بيننا كمواطنين وبين مؤسسات الدولة.