كمكونات فكرية وسياسية وكحصيلة تاريخية كذلك.
تدفعنا هذه المقدمات الى ضرورة تجديد فهمنا للهيمنة والاضطهاد سيما في مجال التقاطعات بين المستويات القومية والطبقية والجندرية والعرقية وكيف ان هذه التقاطعات تفترض تحيين الفكر والموقع والموقف من كل اشكال الهيمنة والاضطهاد محليا ودوليا .
لو رمنا التبسيط لقلنا بأن جلّ مكونات الطيف الفكري اليوم في البلاد تنحدر من مدارس فكرية وسياسية كانت – وبعضها مازال – تؤمن بمقولة العدو الرئيسي والعدو الثانوي .
هذا العدو الرئيسي طبقي بالأساس عند التيارات الماركسية وقومي عند القوميين العرب وبدرجة اقل عند سليلي الحركة الوطنية وحضاري عند الاسلاميين ولذلك كانت المهام الرئيسية الملقاة على عاتق هذه القوى (حتى عند من لا يصنف ضمن التقدميين من بينها) هو التحرر الاجتماعي أو القومي أو الوطني أو الحضاري وفي مفهوم التحرر وهذا يضمر كثيرا مفهوم الحرية بل يكاد ينعدم بل هنالك نوع من التفكير الضمني يعتبر أن الحرية – بما هي حريات فردية وعامة – هي الفيلق الخامس المستتر للعدو والتي يستعملها عبر «أدواته» اي عبر المدافعين عن الحريات وحقوق الانسان لضرب التحرر الاجتماعي او الوطني او القومي او الحضاري ولضمان استمرار الهيمنة الاجتماعية او الاجنبية او الحضارية في البلاد. والمفارقة النظرية التي ادى اليها توخي مقولة «العدو الرئيسي» هي التضاد شبه الكامل بين مفهومي التحرر والحرية .
للنزاهة الفكرية نقول ان بعض الحقوقيين قد أعطوا الانطباع بأن قضية الحريات مقدمة بإطلاق على كل اشكال الهيمنة والاضطهاد فلم ينتبهوا بالقدر الكافي إلى التوظيف الذي تقوم به دوائر القرار السياسي والاقتصادي والفكري في العالم الغربي لانتهاك حقوق الامم والشعوب وتبرير الهيمنة الغربية بحجة مقاومتها للأنظمة الاستبدادية في بلدان الجنوب الكلي (le sud global).
التضاد بين التحرر والحرية خطأ جسيم وذلك أيا كان اتجاه التضاد.
ما نراه اليوم في تونس هو التقاء هاتين المعركتين سواء أكان ذلك بالنظر او بالعمل .
ولعل حرب الابادة الصهيونية في غزة واصطفاف جلّ الدوائر النافذة الغربية مع هذا العدوان قد ساهمت بقسط هام عند البعض في ادراك الترابط بين التحرر (الوطني من الاستعمار الاستيطاني في وضعية الحال ) والحريات بمفهومها الواسع وان ادعاء الدفاع عن الحرية والديمقراطية دون ادانة هذا العدوان والدفاع عن حق الشعب الفلسطيني في الاستقلال والسيادة انما هو تنكّر واضح لقيم الحق والحرية ..
كما أن كل مدافع شرس عن الحق الفلسطيني لا يرى اي إشكال في الدوس على الحق والحرية في بلاده انما هو يتنكر ايضا لكل قيم الحق والحرية حتى لو كان ذلك بالكوفية الفلسطينية .
لكن ورغم الاهمية البالغة لمأساة الشعب الفلسطيني نحن ازاء شكل من اشكال التقاطع فقط وشكل من اشكال الهيمنة والاضطهاد محليا ودوليا .
ينبغي علينا ان نميّز هنا بين الاشكال البسيطة (بمعنى تلك التي لا يمكن ارجاعها الى عناصر سابقة عنها) والأشكال المركبة للاضطهاد والهيمنة .اي ينبغي علينا ان نعود الى الاشكال الاساسية للتمييز بين البشر في عالمنا اليوم .
نسرد هذه الاشكال دون تمييز تفاضلي بينها :
- التمييز حسب العنصر (la race) وهو اهم وأعمق واشمل من التمييز حسب لون البشرة وإن كان يقوم عادة على اساسه في المخيال العام عند المُهيمن (le dominant ) والمُهَيمن عليه (le dominé)
- التمييز حسب الطبقة، ونقصد هنا الطبقة كما يتمثلها مخيال المجتمع اذ لا يكتفي بالموقع المادي فقط في عملية الانتاج بل يضفي على كل موقع نوعا من الفضائل او الرذائل المفترضة
- التمييز حسب الجنس (le sexe) وبصفة اعم النوع الاجتماعي (le genre)
- التمييز حسب الانتماء الحضاري والشكل الاساسي لهذا التمييز قائم على المعتقدات الدينية والانتماءات الثقافية والتقاليد والقيم الجماعية ..
- التمييز حسب الانتماء الوطني وهو يخضع للصورة التي يكونها مخيال شعب ما على مواطني بلد ما واسقاط جملة من الصفات الماهوية الثابتة عليهم .
لاشك ان هنالك اصنافا اخرى من التمييز وفق الجهة او اللغة او غيرها لكنها اصناف مركبة في الغالب يمكن ارجاعها باعتبار أنها تأليف بين شكلين او اكثر من التمييزات الاساسية البسيطة.
لقد انتبه الفكر النقدي في انحاء كثيرة من العالم (التيارات ما بعد الكولونيالية والتيكولونيالية والتقاطعية والتفكيكية وغيرها) الى اصناف التمييز المتفاقمة التي يتعرض لها الافراد والجماعات في عالمنا المعاصر .
العاملة المهاجرة المغاربية في اوروبا تتعرض الى تمييز طبقي باعتبارها عاملة وجندري باعتبارها امراة وعنصري باعتبارها غير بيضاء (للتوضيح «الانسان الأبيض» في الغرب هو الانسان الاوروبي فقط وامتداداته العرقية في امريكا الشمالية واستراليا وغيرها) وثقافي لأنها مسلمة حتى لو لم تكن متدينة وقومي لانها تونسية او جزائرية او مغربية ، وتراكم كل هذه الاصناف من التمييز يخلق حالات اضطهاد وهيمنة متعددة ومعقدة لا يمكن ان نفكر فيها من خلال الصراع الطبقي فقط او الصراع الجندري او الصراع القومي بل بتقاطع كل هذه الابعاد معا .
النضال ضد كل اشكال الهيمنة والاضطهاد - وهذا هو لبّ التمشي التقدمي فيما نرى – يقتضي دون شك العمل الميداني ضدها محليا ودوليا كما يقتضي بناء الاطر المفاهيمية لادراك هذا التعقد وتفكيك عناصره المادية ولاسيما عناصره الكامنة -لا فقط- في مخيال المُهيمِن ولكن ايضا في مخيال المُهَيمَن عليه والوعي بان الافراد والمجموعات واقعة جلّها (باستثناء طرفي الهرم) في علاقات جدلية من الهيمنة وهي تدرك التمييز المسلط عليها ولكن عادة ما تتجاهل التمييز الذي تسلطه على الاخرين .
نحن امام مهام صعبة ومعقدة امام مكونات التيار التقدمي في تونس اذ هنالك معارك واضحة كالنضال ضد الهيمنة الاستعمارية والنضال من اجل الحريات السياسية والديمقراطية والنضال من اجل تنمية اكثر عدالة وهنالك معارك اقل «شعبية» بكثير كالنضال من اجل حقوق المهاجرين غير الشرعيين عندما يكونون في بلادك وحقوق الاقليات الدينية والعرقية والجنسية ،اي كل فئة لا تنتمي الى الجماعة الام فهذا نضال مكلف لا سياسيا فقط، لكنه نضال مرير ضد كل نوازع الهيمنة والاضطهاد الكامنة في كل البشر .
لكل هذه الاعتبارات –ولغيرها – تبقى التقدمية الافق الوحيد، اخلاقيا، للإنسانية.