أراد ان يكون اشمل وأعمق من مفهوم اليسار وان يتأسس لا على الصراع الاجتماعي الطبقي فقط بل على قضايا التقدم الاجتماعي كالمساواة بين الجنسين ومدنية الدولة والحريات الفردية .. ولكن هل مازال لهذا التيار التقدمي الواسع ما يقوله عن قضايا الاستغلال الاقتصادي والاضطهاد الاجتماعي؟
الواضح ان قضية الصراع الاجتماعي مازالت قوية عند التيارات المنحدرة من اليسار الماركسي، لكن هل مازالت المواقف والتحالفات تتأسس على ما يفترض انه الموقع الطبقي لمختلف مكونات المجتمع؟
عندما نمعن في المشهد بدقة نرى ان هذه القضايا لم تعد تعني الجزء الاكبر من مكونات المشهد التقدمي والذي استعاض – بصفة واعية ام لا ، لا يهم – مفهوم الطبقة بمفهوم الأمة التونسية .. فالتقدميون هنا لا يقدمون انفسهم كطليعة الطبقة العاملة او الطبقات الشعبية بل كالمعبرين الحقيقين عن روح الامة التونسية وعن التونسة باعتبارها جذوة حداثة الدولة الوطنية ، وهذا لا يعني بالطبع عدم الايمان بالعدالة الاجتماعية الا انها ليست عدالة صراعية بل عدالة توافقية اذ ان الصراع الاساسي لديهم بين التقدميين عامة والمحافظين لاسيما دعاة الاسلام السياسي منهم.
ودون أن يكون المرء ماركسيا يمكن ان نتفهم هذا التحول (نستثني هنا بالطبع التيارات اليسارية التي بقيت وفية بدرجات للإرث الماركسي اللينيني ) بالنظر الى الانتماء الاجتماعي لجل هذه النخب التقدمية الحداثية، انها لا تنحدر في الاغلب الاعم من الطبقات الشعبية وحتى ان انحدرت منها فقد مكنها المصعد الاجتماعي من التموقع اليوم داخل الطبقات الوسطى العليا ، وهذا الوسط الاجتماعي لا يميل بطبعه الى الصراع الطبقي حتى وإن كان مستعدا للانخراط الجدي في النضال الديمقراطي والحقوقي.
المسألة لا تتعلق فقط بالانتماء الاجتماعي وانما ايضا بطبيعة المفاهيم الاساسية التي انبنى عليها هذا الارث الماركسي والتي لم تعد تسمح اليوم بالفهم الكافي والجيد لفهم الصراعات التي تشق المجتمعات والدول .
يوجد اغنياء وفقراء في كل مجتمعات الدنيا لكن الواضح اننا لم نعد امام مجتمعات فيها مالكو وسائل الانتاج من جهة (البورجوازية) وبائعو قوة العمل (البروليتاريا) من جهة اخرى فقط لا غير كما كان الحال – الى حد ما – في المجتمعات الصناعية الاوروبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
الجديد في مجتمعنا كما في جلّ مجتمعات العالم الثالث هو وجود فئة اجتماعية تسمى بالطبقة الوسطى وهي تمثل في جلّ الحالات نصف المجتمع ان لم يكن اكثر من ذلك ورغم وجود جزء كبير من الأجراء داخل هذه الطبقة الوسطى الا اننا لسنا ازاء الطبقة العاملة (عملة المصانع) فهؤلاء اما موظفون لدى الدولة او من الاطارات في القطاع الخاص من ذوي الاجور المرتفعة نسبيا او من المنتصبين للحساب الخاص كالمهن الحرة وصغار التجار والحرفيين..
كما توجد في مجتمعاتنا فئة هامة اخرى نطلق عليها اسم المهمشين او غير المدمجين وهؤلاء عادة ما يكونون خارج علاقات الانتاج الكلاسيكية ولا يخضعون لاستغلال رأس المال فقط بل كذلك لأصناف من الاستغلال من قبل مكونات من الطبقة الوسطى ايضا. هذا دون الحديث عن علاقات الاستغلال والاضطهاد والتبعية على المستوى الدولي، كذلك داخل كل مجتمع في علاقة بالمهاجرين لاسيما منهم غير النظاميين، هذا بالإضافة الى علاقات الاستغلال او الاستبعاد او حتى الاحتقار التي تنتشر في كل مجتمع بين الجنسين بداية وبين المندمجين وغير المندمجين كذلك.
كيف نفكر في كل هذا ؟ وماهي المفاهيم النظرية القادرة على تفكيك هذه الشبكة المعقدة من علاقات الاستغلال والهيمنة ؟ وأي معنى للتقدمية اليوم في تونس اذا ما تركنا كل هذا خارج دائرة النقد والتفكير اولا وخارج الالتزام الاجتماعي والأخلاقي ثانيا ؟
(يتبع)
الحلقة الثالثة والأخيرة:
III - في دوائر الهيمنة والاضطهاد محليا ودوليا