وعادة ما تردف هذه الصفة بالديمقراطية لتكون عنوانا على توجه عام يكاد يكون طاغيا لدى النخب.
ولكن ما معنى ان تكون تقدميا ؟ وهل يمكن ان نجد خصائص مشتركة واضحة لهذا الطيف الفكري والسياسي والحقوقي الواسع في البلاد ؟
كان التقييم الاساسي الى حدود ثمانينات القرن الماضي في تونس وفي بقية بلدان العالم بين اليسار واليمين ، والتقدمية كانت انذاك صفة من صفات اليسار بالإضافة الى معاداته للرأسمالية وللامبريالية ولإيمانه بالصراع الطبقي حتى لو لم يكن منحدرا من اليسار الماركسي اللينيني ..
ويبدو ان انهيار الاتحاد السوفياتي وهيمنة اقتصاد السوق على الغالبية الساحقة من دول العالم (بما في ذلك تلك التي مازالت تدعي انها اشتراكية) قلّل كثيرا من جاذبية اليسار فتراجع هذا المفهوم ليحل محله – في تونس على الاقل – مفهوم التقدمية باعتباره اكثر شمولا واقل أدلجة من مفهوم اليسار.
بطبيعة الحال نجد عند التقدمي – أيا كان توجهه الفكري والسياسي – ايمانا بالعدالة الاجتماعية دون ان يعني ذلك ضرورة ايمانه بالاشتراكية او بدولنة الاقتصاد ، فالليبرالي الاجتماعي والذي كان يصنف سابقا في معسكر اليمين اصبح احد روافد التيار التقدمي بما يفيد ان هذا المفهوم لم يعد منحصرا في تعريف الموقف الاقتصادي والاجتماعي بل كذلك القضايا المجتمعية الكبرى كالمساواة بين الجنسين مع التركيز على الحقوق والحريات الفردية وهذا ما كان شبه غائب في الخطاب اليساري الكلاسيكي.
اضحت التقدمية مناقضة للمحافظة اكثر من تناقضها مع اليمين الليبرالي وهي ولئن لم تتنكر للنضال من اجل حقوق الطبقات الشعبية إلا ان الجانب الحقوقي المجتمعي طغى عند اطياف عدة من هذا التيار الواسع وهذا ما مثل عنده نقطة قوة (القدرة على التجميع من وسط اليمين الى اقصى اليسار) ونقطة ضعف كذلك (ضعف الانغراس في الطبقات الشعبية مقابل حضور لافت في الطبقات الوسطى العليا).
كانت الحركات اليسارية تركز على نقطة تعتبرها محورية وهي تحديد العدو الرئيسي وتمييزه عن العدو الثانوي، والعدو الرئيسي نظريا – هو العدو الطبقي (طبقة الكومبرادور اي البورجوازية العميلة) بينما تعتبر البورجوازية الوطنية عدوا ثانويا اي حليفا مرحليا في نفس الوقت.
بطبيعة الحال هنالك فرق شاسع بين هذا التوصيف النظري وتشرذم المنظمات اليسارية الراديكالية والتي كادت تحصر عداواتها التاريخية بين مختلف مكوناتها دون البحث الفعلي عن هذا التحالف الواسع سياسيا وطبقيا ..
في المقابل فكرة التحالف تكاد غائبة تماما عند مختلف مكونات القوى التقدمية إلا عندما يتعلق الامر بالتصدي للقوى المحافظة (الاسلاموية اساسا) وفي القضايا المجتمعية كذلك كالمساواة بين الجنسين وفصل الدين عن الدولة والقول بالدولة المدنية ذات التشريع الوضعي ..اما عندما يتعلق الامر بوضع مبادئ تحالف ايجابي يقوم على تصور مشترك للمسائل الاقتصادية والاجتماعية ،هنا لم يعد للتقدمية من مضمون جامع او من برنامج موحد، بل ووصل الانقسام الى مفهوم النضال الديمقراطي ذاته فهل ان الاولية هي في الدفاع عن الحرية للجميع ضد تجاوزات السلطة –ايا كانت هذه السلطة – ام ان الأساسي هو اقصاء الاسلام السياسي من الحلبة بأية وسيلة كانت؟
فالتقدمية التي كان يراد لها تجاوز سلبيات التنظيمات اليسارية الموغلة سابقا في الانقسام والتشتت اضحت بدورها جامعة لأحزاب وجمعيات وشخصيات يستحيل اتحادها حتى حول مهام دنيا لأنها اختارت تموقعات سياسية وفكرية متناقضة للغاية
(يتبع )
II- وماذا عن الاستغلال والاضطهاد ؟