إلا أنها لا تزال تراوح مكانها في معالجة التهميش الاجتماعي وما ينجرّ عنه من لا مساواة مفرطة ومخلة بأبسط مبادئ العدل والعدالة..
الخطر كل الخطر أن تنسينا النجاحات الأمنية الفارقة في محاربة الدواعش إخفاقاتنا جميعا في الحدّ من التهميش الاجتماعي الذي أصبح بدوره يمثل خطرا على تماسك المجتمع وعلى حاضر ومستقبل أجيال كاملة وجدت نفسها في سيرورة تهميشية متزايدة..
افتتح يوم أمس رئيس الحكومة الأشغال التحضيرية للحوار الوطني حول التشغيل في سعي لإيجاد مقاربة توافقية لمعالجة جدية لمشكلة البطالة. ولا يخفى على أحد أن هذه المعضلة هي في جوهر سيرورة التهميش التي تحدثنا عنها آنفا.. وأنه لا يمكن محاربة التهميش دون الحد بصفة واضحة من البطالة وكذلك من كل أصناف التشغيل الهش...
والسؤال الجوهري اليوم هو كيف السبيل إلى هذا ونموّ اقتصادنا ضعيف للغاية إذ لا يتجاوز معدّله خلال هذه السنوات الخمس الأخيرة 1,5 % والحال أنه يجب تحقيق ما بين 5 % و6 % كنسبة نمو لاستيعاب المطالب السنوية المتدفقة على سوق الشغل وأن نتجاوز هذه النسبة بنقطة أو نقطتين حتى نشهد تراجعا جديا لمعدلات البطالة في بلادنا... فكيف ننجح في تحدٍ شروطه الموضوعية منعدمة تماما وسوف لن نكون قادرين عليها خلال السنوات القادمة نظرا لآفة الإرهاب التي تزيد في إرباك أداء آلتنا الإنتاجية وتضعف من فرص الاستثمار الداخلي والخارجي؟
هذا هو السؤال المركزي المطروح اليوم على تونس وكل ما سواه إن هي إلا أسئلة فرعية كمسألة الإصلاحات الضرورية وطبيعتها... ويبدو أننا إلى اليوم غير قادرين على هذا الفعل الذهني إذ كلما نتحدث عن البطالة ننتقل بسرعة إلى الحديث عن إنعاش الاقتصاد وعن الشروط العامة لتحقيق إقلاعه مستبطنين في ذلك نظرية كلاسيكية قوامها أن وحده ازدهار الاقتصاد هو المؤدي إلى الحل الصحيح لمعضلة البطالة...
لا ننكر أن هذه النظرية صالحة في الأوقات العادية وأن وحده خلق الثروة عبر الاستثمار وتحسين الإنتاج والإنتاجية وفتح أسواق جديدة محلية ودولية هو الذي يسرع من وتيرة النمو مستوعبا في نفس الوقت العمالة الإضافية والسابقة...
لا أحد يملك حلولا سحرية أو وصفة جاهزة لا في الأغلبية الحاكمة ولا في المعارضة كذلك لأننا أمام معضلة لا يمكن حلها في إطار تمش نسقي منسجم ليبيراليا كان أم اجتماعيا بل سنجد أنفسنا مضطرين لاختلاق حلول تبدو متناقضة في ظاهرها ولا تستند إلى تصور نظري صلب ومتكامل..
ولكن تلك هي ميزة كل الحلول غير الكلاسيكية فهي تنهل من مشارب شتى لتجد انسجامها باعتبار نتائجها العملية لا منطلقاتها النظرية..
لنضع على طاولة النقاش كل عوائق رفع نسق التشغيل في بلادنا...
- ضعف الإنجاز الحكومي
- منظومة قانونية وإدارية تقوم على فلسفة الاحتراز من الاستثمار وطلب جملة من الضمانات المادية والإدارية لينطلق مشروع ما مهما كان بسيطا.
- العزوف النسبي للمستثمرين المحليين على المجازفة في المناطق الداخلية إما لدواعي ضعف البنية التحتية أو توجسا من ضربات إرهابية أو خاصة تخوفا من الاحتجاجات الاجتماعية.
لا شك أنه يجب الاشتغال على هذه العناصر مجتمعة وعلى كسر كل عوائق الاستثمار قانونيا وإداريا واجتماعيا وذلك هو جوهر تحديث وتأهيل الإدارة وكذلك الترسانة القانونية وما يحف بها من نصوص تطبيقية وإجراءات إدارية معقدة.. وهذا الإصلاح طالما بشّرت به كل الحكومات المتعاقبة ولكن لم تجرؤ أية حكومة على مجابهة هذه الإشكالات بالصرامة المطلوبة.. ولكن إصلاح كل هذا يتطلب بعض الوقت وهو إصلاح لن يؤتي أكله إلا إذا ما استعادت الآلة الإنتاجية عافيتها وديناميكيتها...
ولكن تناول معضلة التهميش لا يمكن أن يكون فقط اقتصاديا بل لا بد من إدماج الاقتصادي الضروري في منظومة اجتماعية أوسع.. أي أنه من غير المعقول أن يتواصل انخرام التوازن الهيكلي بين الجهات والأجيال والجنسين. لا بد من سياسات عمومية تعدّل شيئا من هذه الاختلالات وإلا فإنها ستتفاقم بمرور الزمن..
المطلوب اليوم هو إعادة إنتاج المصعد الاجتماعي بداية داخل طبقة أصحاب المال والأعمال.. بعبارة أخرى لا يمكن أن نقبل أن يتواصل الاستئثار الكلي لأوساط ولجهات بخلق الثروة وأن تبقى جهات وأجيال تتوارث التهميش أو على الأقل قوة العمل..
لا بد من القطع – ولو نسبيا – مع إعادة إنتاج النخب لذاتها وأن نعيد تشغيل المصعد الاجتماعي.. ولهذه الاعتبارات كنا قد اعتبرنا أن قرار رئيس الحكومة بإعفاء الشبان المتحصلين على شهادات عليا من التمويل الذاتي والضمان البنكي عندما يريدون بعث مشاريع هو قرار ثوري إن لم تفرغه الإجراءات الإدارية من مضمونه.. إما بوضع سقف زهيد لهذه القروض أو بفرض شروط مجحفة من حيث تشخيص المشاريع وغير ذلك.. فالفكرة الأصلية هي أن يصبح بإمكان بنات وأبناء الجهات الداخلية والمنحدرون من أوساط اجتماعية متواضعة أن يكونوا نساء ورجال أعمال لا فقط أن ينجزوا مشروعا اقتصاديا متواضعا لا يخرجهم بصفة جذرية من وضعيتهم الاجتماعية الأصلية..
ما ينبغي أن ننتبه إليه بكل جدية هو تفاقم اللامساواة الاجتماعية في البلاد وأنه دون معالجة جدية للامساواة الظالمة هذه لن ننجح في تجسير الثقة ولن نتمكّن من النهوض لو لم نشرع بجدية وبسياسات عمومية صارمة في إعادة شيء من التوازن داخل البلاد..
الواضح إذن أنه لا مخرج لنا دون حلول بعضها ليبيرالي صرف (رفع كل أصناف التضييق أمام الاستثمار) وبعضها اشتراكي (تدخل الدولة في العملية الانتاجية) ولكن جوهرها هو خلق روح تضامنية جديدة وعقد اجتماعي يتأسس على تقاسم التضحيات والمكاسب أيضا...