هو وجود الدولة المُخطّطة (l’Etat stratège)، هذه الدولة التي فقدناها منذ زهاء نصف القرن (وتحديدا منذ ازمة 26 جانفي 1978) والتي لم نتمكن على امتداد هذه العقود الاخيرة من تحقيق شروط امكانها من جديد.
ولكن غياب الدولة المُخطّطة لا يعني استحالة تحقيق نمو يخرجنا من هذا النمو الهش الذي اصبحنا نتخبط فيه منذ الثورة الى حدّ الآن.
لقد أضعنا فرصا تاريخية يصعب كثيرا تعويضها الآن،بعضها كان قبل الثورة كالتحول الرقمي في العشرية الاولى لهذا القرن وتحويل تونس الى قطب تكويني وجامعي يستقطب مئات الآلات من العرب والأفارقة خاصة في أقطاب جامعية ومدارس تكوين ذات جودة عالمية بفضل شراكات مع كبريات الجامعات والمراكز في العالم ..
بعد الثورة أضعنا فرصة الصناعات الثقافية في الكتاب والموسيقى والسينما وألعاب الفيديو لتحويل تونس الى قطب انتاج وتوزيع لأكثر من ملياري بشر (افريقيا والعالم العربي ودول جنوب اوروبا) وهو تحول كان ممكنا بفضل مناخ الحرية الذي انتجته الثورة وكان سيسمح لنا بخلق عشرات الآلآف من مواطن الشغل مع اشعاع دولي لا نظير له .. وتلك فرصة أخرى اهدرتها الثورة التونسية.
هنالك ولاشك قطاعات تسمح لنا بتحقيق نتائج هامة مع الارتفاع في سلاسل القيمة كبعض الصناعات الغذائية (زيت الزيتون مثالا) او في الصناعات الميكانيكية والالكترونية ويبقى المجال الأساسي المفتوح أمامنا اليوم هو بلا شك التحول الطاقي بالمعنى الكبير والواسع للكلمة.
تتمثل هذه الفرصة في البرنامج الضخم لربط شبكتنا الكهربائية بالشبكة الاوروبية من بوابة ايطاليا والتي يفترض ان تدخل حيز الانجاز انطلاقا من سنة 2028.
التحول الطاقي لا يعني هنا فقط انتاج الكهرباء بواسطة الطاقة الشمسية ،وهذا هام في حدّ ذاته،بل تحويل اجزاء كبيرة من الصحراء التونسية الى محطات ضخمة لإنتاج الطاقة الشمسية وإطلاق مشروع وطني منذ الآن لتجهيز كل المنازل الفردية والعمارات السكنية والمؤسسات الادارية والمنشآت العمومية والمؤسسات الاقتصادية بألواح انتاج الطاقة الشمسية وتحفيز كل التونسيين افرادا ومؤسسات على ذلك عبر تسهيل عملية التركيز ثم شراء الطاقة الاضافية بأسعار مناسبة للغاية حتى تتحول كل بلادنا من شمالها الى جنوبها ومن شرقها الى غربها الى مركز ضخم لانتاج الطاقات النظيفة الثمينة والهوائية بالأساس.
لكن التحول الطاقي لا يعني فقط رفع نسب الطاقات المتجددة في انتاج الطاقة الكهربائية بل كهربة كل القطاعات المستعملة للطاقة الاحفورية،وخاصة النقل،فالطاقة الكهربائية اليوم تمثل بالكاد %20 من استهلاكنا الطاقي ولن نرفع في هذا المنسوب الا بكهربة سريعة وقوية للنقل البري بأصنافه من سكة حديدية ونقل عمومي ونقل خاص اذ مازالت كهربة النقل البحري والنقل الجوي حتى بالاستعانة بالمحركات الكلاسيكية مسألة في طور التجارب على المستوى العالمي.
التحول الطاقي هنا يعني تحولا جذريا في كامل منظوماتنا الاقتصادية وتغييرا هيكليا للنقل العمومي ولمعمار المدن ولطريقة الربط بينها وهذا التحول بهذا المعنى قادر على خلق مئات الالاف من مواطن الشغل في عشرية واحدة وعشرات مراكز التكوين والبحث والتجديد وكل هذه المهن الجديدة ذات قيمة مضافة عالية، كما أننا سنصبح مالكين لخبرة قابلة وقادرة على اختراق كل الاسواق الصاعدة في افريقيا.
غني عن القول أن هذا التحول الكبير يحتاج الى تخطيط واستباق وتنقية لمناخ الاعمال وانجاز شراكات ضخمة مع القطاعين الخاص الوطني والأجنبي بهدف تحويل التكنولوجيا والتمكن منها ثم تجديدها عبر مراكز البحث العلمي والتكنولوجيا مع انشاء المصانع وكل اصناف المهن والانتاجات المرافقة لهذا التحول إما في انتاج الكهرباء او في كهربة النقل العمومي او في تصنيع جزء هام من معدات هذا النقل العمومي المكهرب والنظيف للاستعاضة به عن جزء من اسطول السيارات الخاصة.
اليوم هنالك فرصة تاريخية ولكن نافذتها محدودة وتونس ليست وحدها في هذا المضمار اذ أن لنا منافسة قوية من المغرب ومن مصر وكل بلد يحلم بأن يصبح ممولا لاوروبا بالطاقة الكهربائية النظيفة، وهذا يعني انه لو تباطأ الانجاز وضعف الطموح فالعالم لن ينتظرنا وسنفرط في هذا الفرصة التاريخية كما فرطنا في فرص اخرى قبلها ..
ينبغي الاقرار بداية بأننا لسنا أمام مسألة اقتصادية فنية بل أمام اختيار جوهري وهو الاستفادة القصوى من العولمة بدلا من التفكير في تغيير قواعدها، وذلك تفكير نعلم مسبقا انه سيؤدي بنا الى طريق مسدودة .
نقد العولمة جميل ومغر فكريا ونظريا، لكن بلادنا لن تحقق القفزة المنشودة دون استفادة قصوى وذكية وإدماجية من الفرص التي تتيحها لنا هذه العولمة.
نقد العولمة جيّد ولكن الاستفادة السريعة والاستبقاية منها انفع وابقى ..
والرهان ان نجاح تونس في الانتقال الطاقي سيفتح لنا شروط تحقيق النقلة النوعية الشاملة ،اما الاخفاق فسيجعلنا غارقين في هذا النمو الهش دون قدرة على تجاوزه .
وقديما قيل: «لا توجد ريح مواتية لمن لا يعلم أين سيرسي» .
(انتهى)