بشأن الدعوى التي رفعتها جنوب افريقيا ضد دولة اسرائيل متهمة اياها باقتراف جريمة الإبادة الجماعية والتي طالبت فيها -بصفة استعجاليه- من المحكمة إصدار قرار يقضي بوقف فوري لإطلاق النار .
كل ما سيحصل خلال الايام والأسابيع القادمة في لاهاي سيكون له بالغ الأثر لا فقط على مجريات حرب الابادة في غزة بل على هندسة النظام العالمي وعلى ما يسمى بالشرعية الدولية التي تشكلت مباشرة إثر الحرب العالمية الثانية على مستوى المؤسسات الاممية والترسانة القانونية التي يفترض فيها تنظيم العلاقات بين الامم والشعوب ..
في البداية لابد من الاقرار بأن هذا النظام العالمي في أسوإ حالاته حتى قبل بداية الحرب الظالمة على غزة وانه لا يملك من العدل سوى النزر القليل وان الدول العظمى وخاصة منها امريكا وحلفاءها قد طوعته لمصالحها بأشكال صادمة، فقد بدأت محنة فلسطين سنة 1947 بإقرار منح جزء من فلسطين التاريخية إلى دولة مسقطة على المنطقة بغية التكفير عن جريمة إبادة اليهود في... أوروبا ، ومنذ تلك الفترة تمت حماية الكيان الصهيوني كما لم تحم اية دولة اخرى وقد سمح لها بانتهاك صارخ وكلي للشرعية الدولية والتي اريد لها ان تكون الضامن القانوني لحقوق الشعوب والأمم بعد الحرب العالمية الثانية .
الكيل بمكيالين لم يتعلق فقط بالقضية الفلسطينية بل بكل النزاعات الدولية وكلما تعلق الامر بمصالح الدول الغربية عامة والولايات المتحدة الامريكية خاصة.
العالم بصدد التغيّر ببروز قوى جديدة عدّلت الكفة نسبيا اقتصاديا في البداية وهي الآن بصدد تعديلها علميا وعسكريا كذلك، وهذا ما يطرح التحدي الاكبر امام المنظومة الدولية، فإما ان تستوعب كل هذه التحولات بإرساء علاقات دولية عادلة او ان مصيرها سيكون الانهيار دون شك ..
اليوم، جزء من مستقبل العالم عامة والقضية الفلسطينية خاصة ملقى على كاهل هؤلاء القضاة الخمسة عشر والذين يمثلون اليوم عالما مصغرا يختزل كل التناقضات وتحولات كرتنا الارضية اليوم .
صحيح ان هؤلاء القضاة مدعوون إلى الحكم وفق ضمائرهم ولكن امام هذا الشرخ الدولي يصعب جدا على كل فرد منهم التخلص من المحددات الثقافية والجيوسياسية المتناقضة اليوم في العالم .
هنالك ستة قضاة ينتمون إلى العالم الغربي بمفهومه الواسع (امريكا وفرنسا وألمانيا وسلوفاكيا واستراليا واليابان) وأربعة ينتمون الى «البريكس»: (روسيا والصين والهند والبرازيل) وثلاثة ينتمون الى العالم العربي ( لبنان والمغرب والصومال) وقاضي من افريقيا غير العربية (اوغندا) وقاض من الكراييب (الجماييك) ..
نحن فعلا امام نموذج مصغر للعالم الحالي ويقيننا بأن هيئة المحكمة لا يمكنها ان تكون بمعزل عن الرهانات الحضارية والجيوسياسية الكبرى التي تهزّ العالم اليوم ..
صحيح ان الكيان الصهيوني قد اكد منذ البداية انه لن يعبأ بقرارات هذه المحكمة ولكن القرار الذي سيأتينا من لاهاي سيكون هاما للغاية .. قرار بوقف فوري لاطلاق النار سيضع مجلس الامن امام امتحان آخر لعله سيكون الاخير ، فلو عمدت حينها الدول الغربية (امريكا وبريطانيا وفرنسا ) او احداها الى استعمال حق الفيتو حينها تكون قد قبرت نهائيا الشرعية الدولية التي كانت هي وراء هندستها الحالية، لذلك نتوقع ان تمارس كل الضغوط الممكنة المباشرة وغير المباشرة على هؤلاء القضاة أو على بعضهم على الاقل حتى لا يطلب القرار ألاستعجالي وقفا فوريا لاطلاق النار وان يكتفي بدعوة طرفي النزاع الى احترام القانون الدولي الانساني وهو ما يفيد عمليا السماح لإسرائيل بإتمام مهمة الابادة الجماعية. وعندها يعلنون كذلك عن نهاية هذا النظام العالمي اخلاقيا وسياسيا ويؤكدون لكل دول الدنيا ان هذا النظام العالمي لا يعترف الا بالقوة وبالقوة الغاشمة اذا لزم الأمر.
سيعيش العالم أياما عصيبة ومصيرية فإما أن ينتصر العدل أو أن تنتصر القوة الغاشمة .