وإبادة الناس جميعا بلا استثناء، وهو أمر متوقّع. فالدول المموّلة للصراعات والحروب أو المتواطئة مع العدوّ لا تفوّت فرصة لتحقيق مصالحها والبحث عن الاستثمارات الجديدة حتى ولو كان ذلك على حساب الرضّع والأطفال والنساء والشيوخ وغيرهم. بيد أنّ الذي يعنينا، في هذه الافتتاحية، هو التحولات الفكرية المصاحبة لحدث الإبادة الجماعية للفلسطينيين، والتي بدأت مسارتها تتضح يوما بعد آخر، نلمسها في رغبة الأجيال الجديدة في الاطلاع على تاريخ الأنظمة الفاشية فكلّما انتشرت صور ضحايا الغزو والترويع الذي تمارسه 'الدولة المارقة'' وبشاعة التقتيل والتجويع ازداد الربط بين إسرائيل والأنظمة الفاشية التي كانت تجد متعة في تعذيب الأعداء، وعرض ثقافة توظيف التكنولوجيا لزهق الأرواح وخدمة الدعاية العسكرية.إنّه الانهمام بالذات وأمثلتها(idealization) والشغف بالهيمنة والسلطة ولذا يتم الربط بين الأنظمة الفاشية والأنظمة الاستعمارية والأنظمة الشمولية والأنظمة القهرية والشعبوية.
تلتقي رغبة الأجيال 'القديمة' في إعادة الاطلاع على النصوص المرجعية مع فضول الأجيال الجديدة فالكلّ منكبّ على البحث عن معرفة تقدّم محاولة قراءة وفهم أو أجوبة على مجموعة من الأسئلة التي تفرض نفسها على المتابع لحرب الإبادة على الفلسطينيين ودفع الأحياء منهم إلى التهجير. وهي أسئلة تتصل ببناء المعرفة والتاريخ والهويات وغيرها. وبذلك تغدو الأجيال، التي نشأت على احترام ثقافة الاختلاف والتعددية والتنوع والتثاقف وكونية حقوق الإنسان... أكثر رغبة في معرفة تاريخ اليهود، ونشأة الصهيونية من جهة، وتاريخ حركات المقاومة الفلسطينية ، وعلى رأسها حماس، وكتائب القسّام...من جهة أخرى. وهذه الأجيال التي كانت شغوفة بأيقونات الفن وأبطال هووليود وسرديات النجاح الأمريكي ...بدت مصوبة الأنظار نحو "أبو عبيدة" واضعة كلّ منظمات الأمم المتحدة تحت المحاسبة وغير مهتمة بالأنظمة العربية لأنّها أفلست من زمان واستعاضت عن السياسيين العرب بالسياسيين الأفذاذ من بوليفيا والمكسيك ومختلف بلدان الجنوب، وهو أمر يجعلنا ننتبه إلى التموقع الجديد فما عادت أوروبا هي وجهة الاكتشاف بل أضحت البيرو وبوليفيا و..موطن البحث عن الصدمة المعرفية، وبات "تشيقفارا" متربعا على عرش المتخيل . فلا عجب أن رأينا مجموعة من طلبة/ات الجامعة التونسية/الناشطين ينظمون حملات المقاطعة ويمارسون الضغط على المستهلكين، ويشهّرون بالجمعيات والجامعيين الذين لا يزالون ينشطون مع منظمات أجنبية تنتمي إلى بلدان متواطئة وداعمة للإبادة وكأنّ شيئا لم يحدث، وينددون بجامعي "العار " المتخاذلين مع القضية ، الصامتين ،والصمت في هذا السياق شكل من أشكال العنف.
لا يكتفي المتابعون لحدث الإبادة باهتمام شديد، بالاطلاع والتمحيص بل إنّ أغلبهم صار أكثر تصميما على مراجعة بعض المصطلحات والمفاهيم والعبارات المتداولة والشروط التي فرضت على جميع منتجي الخطابات السياسية والإعلامية والعلمية وغيرها فما معنى الحياد اليوم؟ وهل يمكن أن يبقى الإعلامي والأستاذ والمثقف والناشط والممارس محايدا حين يتكلم عن الوضع في كلّ شبر من فلسطين؟ وما معنى التعاطي الموضوعي مع الخبر ومشاعرنا وعواطفنا، وأحاسيسنا أضحت الدليل الوحيد على عدم ضمور الحس الإنساني لدينا في مقابل من جرّدوا من إنسانيتهم؟ وما معنى” الصوابية السياسية ‘political correctness؟ إنّها آلية لمراقبة الخطابات، بما فيها الخطاب الأكاديمي/المعرفي وللجم كلّ من ينتقد العدوان الجماعي توظف لخدمة الأهداف السياسية والعسكرية.
لاشكّ أنّنا إزاء إعادة ترسيم للحدود demarcationبين الأنا/الآخر، نحن/هم بدت جلية في الخطابات الإعلامية المنحازة للدولة المارقة على كلّ القوانين الدولية والمعاهدات والاتفاقيات والشرائع والقيم...ومع إعادة بناء الجدران العازلة تنهار مصفوفة "الكونية"، و''العيش معا باختلافاتنا'' ومنظومة حقوق الإنسان ...لتنطلق ورشات التفكير في ما بعد الإبادة والنتائج المترتبة عنها على المستوى المعرفي، ونقدّر أنّ أهمّها تقويض الارتهان للفكر الاستعماري، ولذا يبدو الخطاب المعرفي الديكولونيالي أكثر جاذبية لدى خاصة الشباب المقاوم لبنى الهيمنة والاضطهاد وتبدو نظرية ما بعد الاستعمار اليوم أكثر حضورا في النقاشات الفكرية لتفكيك خطابات المركزية الغربية والتمركز الأوروبي، وتفوّق الأبيضwhite supremacy...وتلوح أمكانات جديدة فثمة طرح لمنظومة حقوقية خارج المنجز الأوروبي، وثمة مصطلحات أكثر تعبيرا عن الوضع من المعجم المتداول ...إنّها تحولات جديرة بالنظر والتحليل.
ماذا بعد عنهجية 'الدولة المارقة' وإبادة الفلسطينيين؟
- بقلم امال قرامي
- 15:00 24/11/2023
- 515 عدد المشاهدات
تبدو المنافسة على أشدّها بين عدد من البلدان الراغبة على إعادة إعمار غزّة بعد الدمار