حتى ذهب في ظن البعض أنّ تاريخ انتشار ‘الدعاة الإسلاميون’ يرجع إلى مرحلة التحول الديمقراطي وحلول مناخ الحريات.غير أنّ انتشار الدعاة وولع بعض الأفراد بالظهور في جبة الداعية يرجع إلى السنوات الأخيرة من فترة حكم بن عليّ وقد تزامن مع انفجار الفضائيات الدينية أو البترودولار وانبهار البعض بهذه الشخصيات التي استحوذت على العقول وحققت مكاسب مادية هامة. وما إن تغيرت الأحوال ومنحت الرخص للفضائيات والإذاعات والمواقع حتى ‘استنجد’ عدد من الإعلاميين بالدعاة علّهم يحقّقون السبق الإعلامي والإثارة ويزداد عدد الجمهور المتابع لهم .
إنّ تمكين فئة متشددة من الظهور الإعلامي لم يساهم في خلق مناخ يتحاور فيه مختلف الفاعلين ولم يساعد على تكريس مبدإ العيش معا لم يمكن الجمهور من الاستماع إلى مختلف الخطابات كما يزعم الإعلاميون وإنّما على العكس من ذلك، أفضى إلى تأجيج الصراع وبث خطاب التكفير واستشراء العنف في جميع تجلياته.
وسرعان ما دفع النشاط الإرهابي للجماعات المتشددة إلى وعي أغلب الإعلاميين بضرورة الانتباه إلى خطورة لعبة الإثارة وفتح المجال لبعض الأصوات التي تعلن عن عدائها للمختلف وكرهها ‘’للناشطين والفنانين والمثقفين ...»وتحث على تصفية الآخر، ونبذه والتجسس عليه وأسلمته قسرا أو نفيه. ومن هنا بات التحري في هوية الدعاة المشاركين في منابر الحوار هاما وصار شرط الاعتدال أساسيا. وشيئا فشيئا سحب البساط من يد المتهافتين على النجومية والراكضين وراء وسائل الإعلام.
وترتب عن ‘تهميش’ الدعاة الإسلاميين انبثاق خطاب الضحية من جديد. فالداعية يتهم كل وسائل الإعلام بأنها تخدم ‘الدولة العميقة’ وتعادي المتدينّين وتشجّع على المجون والخلاعة ...ويشنّ عليها الهجوم موظفا أتباعه للاحتجاج ، ورافعا مطالب ظاهرها التعبير عن حاجة المجتمع إلى إعلام حر ونزيه وباطنها تمكين الدعاة من البروز من جديد والتأثير في الجماهير. وهو أمر مفهوم فالذي ذاق حلاوة النجومية وفتح صفحة فايسبوكية يتداول فيها الفيديوهات التي توضح مداخلاته ويحصد فيها اللايكات Like ويضاعف فيها عدد الأتباع Fan لم يتقبل فكرة تجريده من السلطة ، وهكذا راح الدعاة يشنون الحرب على» الجامعيين والمثقفين والفنانين و...»في الداخل والخارج مبررين خطة الاستبعاد بإفلاس الخطاب الأكاديمي وبعد المثقف عن الجماهير وفشله في تغيير الواقع ومرددين « نكبتنا في نخبتنا» ومؤكدين على حاجة الغرب إلى الاصغاء إلى التجارب العملية لا إلى الخطاب التنظيري.
إنّ ما يسترعي الانتباه في هذا الصراع المعلن بين الدعاة الإسلاميين وغيرهم من الفاعلين يثبت أنّ الداعية يتصور أن حضوره لا يكون إلا من خلال إقصاء الآخر وأنّ خطابه لا يمكن أن يكون فاعلا ومؤثرا إلا إذا هدم خطاب الآخر ومن ثمة فإنه يبني نفسه من خلال نفي المغاير الذي يهدد أمنه الفكري القائم على الابقاء على الثوابت. وبالإضافة إلى ذلك تحيط الضبابية بموضوع الدعاة فمن هو الداعية الإسلامي في تونس؟ هل له خصوصيات أم أنه يحاكي أنموذجا انطلق في السعودية ومصر وسوقته الفضائيات وصنعته؟. وكيف يتمثّل الداعية التونسي وظيفته ودوره .؟ وما مفهومه للدعوة؟ وما هي المساحة التي يتحرك فيها في الفضاء العام؟ إلى غير ذلك من المسائل.
يشن الداعية حربا على من ‘احتلوا المقاعد’ في المنابر الإعلامية ظاهرها الانتصار للإسلام والقضاء على التصحر الديني وباطنها الانقضاض على وسائل السلطة والتأثير في الجماهير ولذلك «يصطاد» الداعية التلاميذ والطلبة والنساء ويحاول تشكيل عقولهم وحمايتهم من العلمانيين ولكن هل بإمكان الداعية أن يحرّر العقول من الفكر الدوغمائي ويبني فضاءات المعرفة المساعدة على العيش معا؟