بوشعيب عطران ما بين التحريض و«مصائد النسيان»

خالد بريش
باحث وأستاذ جامعي

«مصائد النسيان» هو عنوان المجموعة القصصية التي صدرت مؤخرا عن دار سليكي أخوين للكاتب المغربي بوشعيب عطران وهي تحوي 14 قصة قصيرة تتناول لوحات دقيقة الأبعاد من حياتنا كبشر نعيش على ظهر هذا الكوكب دون تحديد للجغرافيا أو الانتماء العرقي.
ففي الصفحات الأولى للكتاب وتحديدا في الإهداء يوجه الكاتب بوصلة القارئ نحو الهدف عندما يقول : «إليكم أيها المنسيون في عالمنا الشرس وذاكرتنا الضيقة هذه الإيحاءات لهدم هوة النسيان». وعندما يذكر خلال سرده شخصيات عدة فإنه لا يسميها لكي يعطيها بذلك فرصة للتوحد بل لتكون كل واحد منا.

ولهذا لا يحتاج القارئ للدخول إلى أعماق هذه القصص إلى جهد كبير. فبمجرد خطوات في سطور هذا الكتاب يجد نفسه وقد تسربل بعباراته وجمله فيتداخل وقعها مع نبض حياته الخاصة. فيسافر عند بعض فواصلها بمفرده إلى قصصه هو أو قصص محيطه التي يعيش وقعها من بعيد أو رنت يوما إلى مسامعه. قصص نسجها الكاتب ودبجها لتعكس صورة المُعاش الإنساني بامتياز، وكأنها ريشة رسام تداخلت روحه بشخوص لوحاته فتلتقي مع روح القارئ لتزرع في دواخله أملا افتقده المجتمع فتدفعه نحو الأمام فيما لو كان من المتقاعسين.
وليس صعبا على القارئ أن يكتشف أنه أمام لغة مصاغة بحذق، موقعة موسيقيا، شعرية المنحى والصور، يتسع رحمها لمواليد كثيرة، واسعة الأفق والمساحة، حدودها الإنسان في أي بلد وظرف كان. إنها عبارات كماء بحر تُلاطم أمواجه جسده. ويغسل ماء البحر هذا روحه. بحار من شعر أقرب للعسل المصفى. إنها لغة شاعر انسكبت القصيدة في أعماقه فاستيقظ ليكتبها ويصيغها على الورق ويضعها بين يدي القارئ...

موضوعات القصص
تتوقف القصص الأربعة عشرة عند تفاصيل مجتمعات يعرفنا الكاتب على آلامها ومشاكلها، ويدخلنا إلى عمقها بهدوء من خلال محطات حياة الإنسان وتحديدا من حيث مواطن الألم الإنساني. فالليالي في قصصه حافية وصراع الطبقات متواصل على أشده. والشواطئ تدفن في رمالها أحلام شباب لفظتهم بلادهم. والحاضر يُسْدل ستائره كالحُجُب فلا مستقبل يُرى من خلالها ولا أفق. وأما التسلق على صخور الواقع الفج والنظر نحو مستقبل واضح المعالم يبزغ نوره كالقمر فهو غاية مرتجاة. إنها الطريق الوعرة ولكن في نهاياتها قمرا يضيء.
أرواح مبعثرة جراء الهموم يتم ترتيب تفاصيلها. وامرأة غريبة يفوح عطرها فيخالها الغريب له سكنا وموطنا فيتبعها مندفعا بكل جوارحه في المجهول. ولكن خذ حِذرك أيها المخلوق فقبلك أناس وقعوا في فخ حقد النساء وكيدهن. وإنك تستطيع أن تدير ظهرك لكل شيء في الحياة إلا لامرأة... لأن انتقامها بلا حدود...!

إنها مجموعة أحلام مرتبة بإتقان، وتختلف باختلاف الأشخاص. ولكنها تلتقي في مساحة مشتركة وخيط يربطها ببعضها، ألا وهو المستقبل. فالفقراء من أبناء القرى النائية مثلا تنحصر أحلامهم بالذهاب إلى المدينة وصخبها فيسافرون وتسافر معهم تلك الأحلام منطلقة معهم أرواحهم فتحوم في زحام المدن وأنوارها وبهرجتها... وغوص في غربات لا تنتهي إن كان في الوطن بسبب البطالة، أو بسبب الضياع في غياهب المدن، أو بسبب مشاعر الوحدة التي تغدو كجلاد ينزل بسياطه على لحم غض. فصدمات المدن تحطم الأرواح وتقضي على الأحلام وتغتالها.

قصص تعيد صياغة الآلام والهموم والمآزق فتوحدها كيانا ووطنا وإنسانا. ومسيرة بحث عن أمل يكمن في العيش مع الآخرين وفي وسطهم حيث تصاغ الأحلام وفق معطيات الآخرين وتجاوبهم معنا لتصبح الأحلام فيما بعد مسلسلات مع كل فرد من الآخرين حلقة. وقد يستيقظ الحظ الذي طالما انتظرته أيها الإنسان وحلمت به يوما... وعندما يصل إليك تكون أنت في عوالم أخرى وغير مستعد للقاء به...!

من الممكن القول إن هذا العمل في مجمله هو عبارة عن تحريض في مكان ما لكي يصحو الإنسان ويقول ما يدور في خلده. يصحو فيثور فينتفض متحديا الخنوع وخالعا ثوب الخوف من الفشل. وليحقق ذاته كابن للأرض والريح والمطر والبحر والزهور والشجر وكل ما هو جميل ورائع في هذه الحياة. وإذا ما انتهى القارئ من صفحات الكتاب علق في أعماق ذاته صدى لتلك الصرخات التي قرأها وغاص في معانيها فأخذت ترددها روحه : أغلقوا كل المنافذ والثغرات في وجهي... لا ولن أهزم بسهولة... ومهما كانت تقلباتي لن أتزحزح من مكاني... لن أبالي بالانتظار وسكنات الاحتضار...

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115