مدينة بن قردان وأهالي بن قردان يُنبّهون إلى أشياء منسيّة و يكشفون عن قِيم ظنّ البعض أنّها اندثرت مع أزمنة الجشع والعولمة والتوحّش ، أسّسوا عمليّا وعلى حبّات تراب من تبرٍ لثقافة كنت أقرؤها في الكتب والنظريات الفلسفية وأسأل عنها وعن مصيرها ، ثقافة أنّ «كلّ النّاس مثقّفون» لا بكتبهم ونظريّاتهم التي يؤسّسون ويدوّنون بل بالانخراط الحقيقي والفعلي في ثقافة الحياة والعزّة والشجاعة ورفع الإنسان وقيم الإنسانية ، أسّسوا اليوم لثقافة أنّ الآخر أنا وأنا الآخر إذا ما كنّا معا ندافع عن الحياة والإنسان فحين يواجه أحدهم الموت المحقّق دفاعا عن رابطة الدمّ والإنسانية لا تستغرب حين ترى بعدها الموت وقد هرب أمام صمودهم واختفى ولو لحين ، جال بخاطري السؤال وتساءلت : ما الذي أعطاهم إياه هذا الوطن منذ أكثر من نصف قرن حتّى يرفعوه إلى أعلى قمّة ويُروى ترابه بدمائهم لصيانته وحمايته ؟ فتذكّرت العبارة: «بلادي عزيزة وان جارت عليّ» .
حتّى هذه العبارة باتت تقليديّة مع عبارة أب ملتاع لموت طفلته زهرة من زهور البلد. عبارة قد تغني عن أي كلام وتطمئن من أي مكروه قد يحدث بعد اليوم ، هكذا قال الأب المواطن «بلادنا قبل أكبادنا» أيّ رهبة يمكن أن تنتاب السياسيين والمحلّلين والمثقفين أمام الثقافة الشعبية التي لا تختار الكلمات ولا تنمّق القول بل تفصح بطلاقة الإنساني في الإنسان وبفصاحة الصدق و أثبتت هذه المدينة بجنودها وأمنها وبمواطنيها خاصّة أنّ الحياة بلا أوطان وبلا رائحة الأرض والتراب والانتماء وحرّ الصحراء شبه حياة وليست حياة .
قد يظنّ البعض أنّني أكتب بوجدان ، أبدا أنا أكتب بعقل وفكر بل أنا مسلّحة بنظرية الثقافة الشعبية وكلّ الناس مثقفون وكلّ الناس فلاسفة طالما لهم رؤية ومعنى للحياة والوجود ومع ذلك لم أكن أتوقّع صدق المعرفة والنظرية في التحامها بالواقع العيني الملموس إلى هذا الحدّ . ومنذ الهجوم الهمجي الإرهابي وأنا أطرح السؤال الذي لازمني طويلا وكنت دائما أجد الإجابات ولكن إلى هذه الدرجة جاء منهم من أهالي بن قردان ليقول : الوطن والوطنية ليسا كلمة تردّد ، ليسا مصطلحات نكتبها نصوصا وشعرا وليست مفهوما نشتغل عليه في رسائل الأدب والتاريخ والجغرافيا بل هو حياة نحياها وغذاء شرايين ونبضُ قلوب وكنت
أسأل أيضا هل نتوارث ذلك ثقافة وبيئة وقيم المحيط أم جينيّا ، هل هي ثقافة الشابي والدغباجي والحامي أم جيناتهم ...؟
الوطن الذي فتحوا قلوبهم وأذرعهم ليحتضنوه ولم يتركوه للموت وبالتحام أجسادهم ونفوسهم وعقولهم هُزم الموت عليه أن يكون في مستوى التقدير اليوم وعاجلا لا خيار أمام الساسة وأخذ القرارات و القيام بالحدّ الأدنى من التنمية هم بصبر أيوب وكلّ المناطق المهمّشة بصبر أيوب ولا تطلب التعجيز بل تطلب الحدّ الأدنى وصدق الوعود وعدالة الفرص .
اليوم أيضا وبعيدا عن ثقافة الاحتفال والتنشيط العابر لابدّ من ثقافة التأسيس وهذا يكون بنوادي أطفال ودور الثقافة ودور الشباب وجمعيات ثقافية تعمل بشكل مدروس وعاجل ، لابدّ من المتابعة الثقافية والنفسية في المدارس والاعداديات والمعاهد ، ما مرّ على هذه المدينة ملحمة بأتم معنى الكلمة وهي سابقة ولم تتعوّد تونس على هذه الفواجع. هزمتك ثقافة الأهالي اليوم هزمتْ الموت العابر للمحيطات ولكنّه موت يرمّم داخله وينهض من جديد فلا بدّ من أدوات حياة حقيقيّة وعمليّة وعاجلة.