والمعتزّ بهويته، المسرح مساحة للقاء هكذا هي رسالة مسرحية «اشوفك» اخراج حسن رجب حمادي التي مثلت دولة الامارات العربية المتحدة في فعاليات ايام قرطاج المسرحية.
«اشوفك» نص لاسماعيل عبد الله، وانتاج «مسرح ام القيوين الوطني» الذي يدافع منذ 1979 على مسرحة الموروث الشعبي لدول الخليج العربي والشعب العربي عموما، والمسرحية من تمثيل قيدوم المسرح سعيد سالم والممثلين ابراهيم استادي وسيف عدران ومحمود القطان وامل محمد ودلال شرايبي وفيصل علي وموسى البقيشي وحسين سعيد وصلاح محمد وربيع سعيد وعلي الزرعوني.
في تماهي الغناء والتمثيل تكتمل شيفرات العمل
تدق الطبول، ترتفع الحناجر بالغناء، منذ الباب يستقبلون المتفرج بالترحيب، هي دعوة مباشرة أن تكون ضمن أحداث المسرحية «جمهورنا الجميل، رجعنا نلعب، وبحضوركم اكتملت اللعبة»، صوت «الطق» (كلمة شعبية تعني ضرب الطبلة الصغيرة)هو الأكثر حضورا، عزف مباشر على الركح لإيقاعات تقليدية وموسيقى خليجية تعرف الأذن التونسية بعضها، الموسيقى والأزياء وانتشار اللون الأصفر يحيل مباشرة إلى بيئة الخليج العربي، اللباس هو الآخر يحمل ذهن قارئ العمل إلى فترة تاريخية قديمة.
ترتفع الاهازيج الصحراوية، شخصيات بملابس رثة تتحرك كامل الفضاء، تغني، وترقص على إيقاعات تقليدية شعبية مثل «الردحة» و»الونة»، الموسيقى تجعل المتفرج عنصرا من عناصر اللعبة، فهي حية وإيقاعها صاخب، في المسرحية تكون عناصر السينوغرافيا واداء الممثل مع نص شاعري بنفس عربي ممتع هي مقومات لتفكيك رسائل العمل، فالمسرحية تتغنى بالتراث البدوي الصحراوي وتقدم الاهازيج البحرية التراثية، اغان من الذاكرة الشعبية المنسية يحييها كاتب النص اسماعيل عبد الله ويبعث فيها المخرج حسن رجب الروح لتقدم على الركح في اطار تمثيلي واحتفالي.
«اشوفك» عمل مسرحي غنائي، يندرج في اطار فن العياّلة وهو نوع من الفن الذي يحاكي قصص النصر والبطولات او المواقف الشجاعة ،وهو يحتاج الى حنجرة قوية تروي أمجاد البلاد السابقة والمشرفة، فالعيّالة تعدّ سرد للتاريخ ولميراث عريق، هذا الفن يقوم على الاغنية التراثية، وكلمات شعرية تجمع بين الفصحى والعامية، تقدم في شكل جوقة تغوص في تاريخ الأجداد وبطولاتهم، و»اشوفك» مزيج من الغناء والتمثيل والرقص مع تقنيات الإضاءة وأداء الممثل تدعو للمصالحة مع الهوية الموسيقية التقليدية، وتشريع أبواب الذاكرة على تراث الأجداد وحكاياتهم والتمتع بجمالية الصورة وجرأة المعنى والدعوة للمصالحة بين الجيل الجديد وموسيقاه، ومنه التصالح مع الهوية والاعتزاز بها.
المسرح ومساءلة التاريخ قديمه وحديثه
«نحن سبب خراب أوطاننا، وتراجع قيمتنا لدى الآخر الغربي» هي النتيجة الحتمية التي سيخرج بها متلقي العمل، أحداث المسرحية الغنائية تدور في زمن ماض، تحديد وقت الاحتلال الانقليزي، لكن بعض تأثيراتها لازالت الى اليوم، امتداد تاريخي للاستصغار من الذات واحتقارها أمام الأجنبي، دراسة في علاقة العربي بالغرب تقدم على الركح في شكل نص ساخر مسكون بالكثير من النقد والوجع.
أبطال المسرحية جميعهم «حنا ميانين (مجانين) لا احد سيسمع كلامنا»، فضاء لعب درامي ميزته اللون الاصفر كامتداد للصحراء وارتباط وثيق بالهوية الجغرافية للمشرفين على العمل، هم مجانين، يرقصون، يغنّون، ويصنعون عالمهم الجد خاص في مكان منعزل عن المدينة، لكن بتقدم الاحداث يكتشف المتفرج انهم اكثر عقلا من العاقلين، فقط اعجبتهم لعبة الجنون فمارسوها.
المجانين، هم انموذج لابطال وضعوا قسرا في ذاك المكان المعزول، جميعهم أصحاب مواقف وكلهم كانت كلمة «لا» السبب في دمارهم النفسي والعقلي، الشخصيات الخمس الرئيسية دفعت «عقلها» ثمنا للشهامة والتمسك بالمبدأ، فمحراك (ابراهيم استادي) شخصية ذكية تعلم الانقليزية بسرعة البديهة واصبح يعيش بينهم في المعسكر، يدخل المنازل وكانه مواطن انقليزي، لكنه يوم «قلت لا، ضربت وعذّبت ورموني هنا»، و»حسون» (محمود القطان) المولع بالراديو نفي الى معسكر المجانين بعد أشهر من تعذيبه وسجنه في احدى الغرف المغلقة لانه فضح الانقليز بعد معرفة ما يخططونه لابناء وطنه ودول مجاورة، و»سلوم» الشاعر (موسى البقيشي) هو الاخر يدفع ثمة كلمة لا، فطياش المتجبّر طلب منه ان يكتب لأبنه قصائد وتنسب للاخير، رفض سلوم بيع نصه وفكره فحرم من عقله، و»جرناس» (سعيد سالم) تخلى عن الشرف الاصغر «سلاحه» حماية للشرف الاكبر «زوجته وعرضه» فكل الشخصيات، عاقلة، واعية، هي فقط تجرأت على قول «لا» للمستعمر واذنابه فاتهموا بالجنون ووضعوا في مكان معزول بعيد عن الناس، جميعهم يقنعك انه حقا مجنون، ولا سلطة على فاقد العقل.
«أشوفك» هي الكلمة الرمز بين جميع الشخصيات، هي مفتاح الدخول الى العمل وتفكيك شيفراته، «اشوفك» بما تعنيه من وضوح الرؤية وانقشاع الضبابية، «اشوفك» كانت الكلمة المنتشرة بين حراس الابراج في علاقة مع الغريب. «اشوفك» تجربة مسرحية وغنائية تراثية، تقدم حكايات ابطال ابناء الصحراء، اولئك الذين تعلّموا ونحتوا الذات العربية وتجرئوا على رفض الظلم والانتصار للانسان.
فـجرناس في النهاية يدعوهم الى التمرد، يفتح ابواب المنفى المعزول ويطلب من مجانينه استرداد العقل والتمرد على الظالم واثبات الذات، وتلك هي رسالة المسرحية، اكتساب الثقة في الهوية العربية والايمان بقدرة الانسان العربي على تجاوز الاخر الغربي بكل جديده، وتجديده.
فالعربي تعلم قيم الشهامة ورضع معنى العزة والحلم منذ النعومة، و»جرناس» الشخصية المسرحية مستلهمة من قصة واقعية لحارس ليلي كان يستنهض الهمم للثورة ضد المستعمر الانقليزي في الخمسينات، فالعمل هنا يفتح ابواب الذاكرة عن رموز تاريخية وشخصيات حقيقية كانت عنوانا للقوة رغم جبروت المستعمر، مسرحية تسائل التاريخ وتدعوا متفرج اليوم لامعان النظر فيما كتبته الاجيال السابقة من ثورات، علّهم يتصالحون مع هويتهم زمن التغريب والعولمة.
مسرحية «أشوفك» من الإمارات إخراج حسن رجب الحمادي: قراءة ساخرة لواقع المجتمعات العربية
- بقلم مفيدة خليل
- 10:54 13/12/2022
- 1314 عدد المشاهدات
المسرح مساحة للحرية وفضاء لفتح كتب التاريخ وإعادة قراءة التراث الشفوي والغنائي، المسرح أداة لتفكيك الواقع واعادة تركيبه والانتصار للانسان العربي الواعي