فيلم «عقرب مجنونة» لأكرم منصر: المنسج مملكة للنساء ومساحتهنّ الكاملة للاستقلال الاقتصادي

يصنعن موسيقاهنّ المميزة، تكتب القلوب حكايات النسوة كلما «دقت الخلالة» تراقص اليد الصوف وتغازل الأصابع الممسكة بـ«الرطاب»

الروح بقوة، يتركن ندوب الروح وأزهارها على الصوف الأبيض ويحولنها إلى منسوجات تحاكي جمال المرأة الوذرفية وقوتها، لكل «رقمة» حكاية تتبعتها كاميرا الأخوين اكرم وايمن منصر ليقدما لجمهور أيام قرطاج السينمائية فيلم «عقرب مجنونة» شريط وثائقي ينصت إلى دقات الخلالة وهي تكتب سير النساء الشامخات.
«عقرب مجنونة» فيلم وثائقي طويل عرض ضمن قسم «افاق السينما التونسية»، كتب نصوصه ناجي الشطي وكاميرا عبد المنعم بلقايد وحلمي شهبون، في مشاكسة للذاكرة وانصات لنساء يثمّن الذاكرة والموروث.
النساء في وذرف مانحات الحياة للبشر والنسيج
توغل الكاميرا في الذاكرة، تدغدغ ما خمد فيها من ذكريات توقضها من سباتها لتزهر من جديد، يتحرك سيل من القصص والحكايات، حكايا الطفولة وقصص الجدات والامهات، صوت «التكبير» والبسملة» بمجرد دقّ «الموثق» ذاك المسمار الغليظ ووضع أول خيط للمنسج، ثم أصوات موسيقى مميزة تصنعها رنة الخلالة وصولا إلى «الزغاريد» إعلان لانتهاء القطعة المنسجوة، زربية كانت او كليم، هذه الذكريات الساكنة في مكان ما من الذاكرة تحرك اكرم منصر ليحمل الكاميرا ويلتقط حكايات النساء مع المنسج، فللمراة في وذرف علاقة خاصة بالنسيج، علاقة تناصّ تشبه صلة الجنين بالحبل السرّي.
«حكاية هذا العمل ليست من الحاضر القريب، بل هي حكاية اصل منذ نشأنا بين الهنا والهناك، أيقظ فينا صراخ الخلال روح البحث والتوثيق لبطل في خيال الهة ذات ارث جمالي وفني يتردد بين ثنائية الحمل والحماية، فالمرقوم والاثنى حكاية متجددة بالمعاني والحكايا، حيث الفن والعلم يسكنان ذاكرة لينة تصلبت بشكل الجدادة كوتر من قلوب النساء الصامدات» كما كتب اكرم منصر مخرج العمل، ليحمل الكاميرا وتكون وسيلة جمهور ايام قرطاج السينمائية ليتعرّف على ملمح نسوة يقاومن الجغرافيا وتعب المنسحج ليحافظن على الذاكرة حيّة متقدة بالحبّ والدفاع عن الارث والهوية.
«في بلدة وذرف تعانق المرأة المرقوم، هي ذاكرة المكان الساكنة في الأفئدة والأبصار» في وذرف تعانق المرأة التاريخ، تعيد كتابته وإحياءه عبر منسوجاتها اليدوية، تنطلق مع قصص الأولين تعيد صياغة موسيقاها عبر الخلالة فتغوص في حكاياتهم وتبوح بأسرار الجدات، عبر «الرقمة» المختلفة حسب الزمن والموغلة دائما في قصص العشق اللواتي خطتها الجدات وتركتها مثل الشيفرات المرمّزة وحدها «الرقامة» (المرأة التي تتقن فنّ النسيج والرقم) من يستطيع قراءة هذه الشيفرات، فهي العارفة بسرّ ولغز كل «رقمة» وهي الحالمة دائما بالحفاظ على موروثها وصنعة يديها.
تغازل الأصابع «الجدّاد» تمرره يمنة ويسرة ببراعة فيتماهى صوته مع حركات المايسترو حين يعزف على آلة الكمنجة، وأحيانا يصبح بمثابة صفير يطلقه عازف الناي، فللرطاب موسيقاه الخاصة ولأصابع الحالمات، الكادحات سيمفونيات يكتبنها منذ الأزل مانحات الحياة لذاك الصوف الأبيض.
«المرقوم» سيرة كادحات لهنّ مملكتهن الخاصة
تقترب الكاميرا كثيرا من حركات اليد وهي تنسج، بتقنية الزوم ينسى المخرج كل الفضاء ويركز فقط على الأصابع ممسكة بسلاحها ومنطلقة في خط مسارها الحياتي المثقل بالحكايات، تلك الأصابع المتشققة واليد التي سكنت بالتجاعيد تكون أول من يدقّ سيمفونية الأمل ويكتب إلياذة خلود وبهاء للمرأة والمكان، «لن اغادر منسجي الا بعد نهاية الجسد، المنسج في وذرف كما الهواء يوجد في كل بيت، نحن تعلمنا وورثنا حب المنسج عن الام والجدة، المراة الوذرفية لا تشتغل في البيوت ولا تنتظر الرجل ليتحمل مصاريف بيتها، بل بمنسجها ورقمتها قادرة على الحرية الاقتصادية واعانة البيت والعائلة» كما تقول امرأة شامخة معتدة بيديها وما تلوّنه من ابداع فنّي مذهل، فطالما كانت المرأة مدينة والوذرفية لا تحتمل النسخ مرتين، واحدة شامخة، صادحة أزلا بصوت الحياة كلما جلست خلف منسجها.
منهك الجلوس خلف المنسج، متعب تمرير الرطاب على الجدّاد وصناعة تلك الموسيقى المميزة، احيانا يكون وسيلة للتعبير عن الحالة النفسية «نعرفها من دقتها، فرحانة او متعبة، المنسج مساحة للحرية بالنسبة للمراة وفضاء للتداوي النفسي، لكنه متعب جسديا» فكاميرا اكرم منصر تتبع تلك الايادي المشققة، تركز على تجاعيدها البينة، تنقل الموسيقى والالوان التي تصنعها النسوة، في الفيلم لا حاجة للمخرج بمن يصنع موسيقى مختلفة، فهنّ لهنّ موسيقاهنّ والحانهنّ النابعة من خبايا الذاكرة والروح.
«عقرب مجنونة» فيلم يتابع سير النساء في وذرف، يضع نضالاتهنّ امام الشاشة الكبرى، يلتقي الجمهور مع بساطتهنّ امام الكاميرا وبراعتهنّ خلف المنسج، لهنّ مساحة كاملة للغناء، للتباري لانهاء «الرقمة» وللخوض في احاديث الارث والذاكرة، فالمراة الجالسة خلف المنسج تكتب تاريخها بطريقتها الخاصة، تدافع عن خصوصيتها التاريخية وهويتها عبر النسيج المتوارث عبر الاجيال، فالزخم والثراء مترامي الابعاد، نساء ومكان وكيان، وذرف ومرقوم، تفاصيل وعقد اختزال لصراع بين العصر والعصرنة وحديث عن الحداثة، وصف وتوصيف وتوظيف للصورة والتصوير واختزال لحكايات القدامى وبراعة المراة اليوم في الدفاع عن ذاكرتها «المراة الوذرفية لاحها مرقومها» كما تقول باعثة الحياة في الصوف.
«عقرب مجنونة» انتقال بين لقطات سينمائية مختلفة، مجال شاسع للكاميرا لتوثيق حكايات النسائية، «كادرات» ثابتة اغلبها فالنساء كما العمدان ثابتات في اماكنهنّ خلف المنسج، الالوان مميزة تتماهى مع الالوان المستعملة في المرقوم، «عقرب مجنونة» اسم للرقمة الموجودة على اطراف الزربية او المرقوم الوذرفي، دلالة على القوة، والعظمة فالرقامة تتماهى مع العقرب في قوتها واعتدادها بنفسها وبنضالاتها لتحافظ على تاريخها ورموزها عبر صنعة يديها.
نساء وذرف حاميات المرقوم من الاندثار، حارسات الذاكرة، خلف المنسج تبنى المملكة الخاصة بهنّ، ذكاء فطري في احتساب عدد «الرقمات» وكيف توضع في خطّ واحد والبعد بينها، عمليات حسابية دقيقة و«ماتيماتيكية» تبدع في تطبيقها تسوة لم تعرف اغلبهنّ المدرسة، فالفطرة والذكاء وحبّ المنسج ما يميزهنّ ويميز اعمالهنّ.
يحرسن الذاكرة، يقدمن منتوجا حرفيا نراثي ينهك اتلجسد ويتعبه، منسوجاتهنّ توجه للتصدير واحيانا لاكبر المتاجر، لكنهنّ يتعرضن للاستغلال الاقتصادي فالتاجر يمدهنّ بالسلعة الاولية، ثم يشتري المرقوم بثمن تلك السلعة مع فائدة قليلة كأجر لصنعتهنّ «يعطينا السلعة مثلا بقيمة مائة دينار، وحين الانتهاء يشتري المرقوم مثلا بقيمة مائتين وثلاثين دينار، ويبيعه بمليوم، وثمنية، اين الحقّ هنا» حسب تعبير احداهنّ، لكنهن لازلن مصرات على الحفاظ على مملكة الالوان التي ورثنها عن الجدات.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115