كانوا من العلامات المضيئة في الساحة الإبداعية كتابة ونشرا وشعرا، صنعوا مجد تونس ومنه اخذوا أمجادهم، سيظلون عنوانا للوطنية والإبداع حتى وان غابت أجسادهم. والصحفي نور الدين بن محمود علامة مضيئة في تاريخ تونس، صحفي حبّر الكثير في جريدتيه «الثريا» و»الاسبوع» وكانت كتاباته البوابة التي عرف عبرها طه حسين وتوفيق الحكيم تونس.
نور الدين بن محمود الصحفي الاديب احتفى به منتدى الفكر التنويري التونسي في ندوة فكرية تناولت الجوانب الإبداعية في حياة بن محمود عبر مداخلات قدمها دكاترة واساتذة مختصون، فتحدث الشادلي بن يونس على الجانب الجمعياتي واشار عبد العزيز قاسم الى نبوغ بن محمود وتناولت فوزية المزي الكتابات المسرحية وتحدث علي الجليطي عن الحياة السياسية وفككت نسرين السنوسي مذكراته المبتورة واشار عز الدين المدني الى «الأسبوع» المدرسة وتساءل عن «النسيان» الذي يعانيه مبدعو هذا الوطن.
صحفيّ وكاتب متعدد المواهب
نور الدين بن محمود صحفي تونس احبّ هذا الوطن ودافع عنه في كتاباته وهو علم من اعلام الثقافة انطلقت تجربته في الاذاعة ثم في الصحافة المكتوبة، بن محمود كان قبس يضيء الدروب الكتابية المظلمة بقلمه المنساب شعرا ونثرا، درس بالمدرسة القرآنية ثم مدرسة عربية فرنسية، كان متميزا في التعليم وتحصل في سن الرابعة عشرة على الشهادة الابتدائية بامتياز وشارك في مناظرة الدخول للمدرسة الصادقية ونجح فيها، كان شاعرا رقيق القلب والاسلوب:
إنني كالكروان ليس لي ما اشتهيه
انا ان عشت طليقا ضلع في الاجواء تيهي
وانطفى منها نحائي وجفا شعري راويه
واذا عشت بقفص قرب الناس اليه
رددوا في الحيّ شعري وسرى الخلود فيه
كما درس الترجمة، وتحصل على «الليسونس» في الآداب من كلية بوردو بفرنسا، فكان بارعا في الكتابة باللغتين العربية والفرنسية لكنه اختار العربية في بداياته للدفاع عن هوية وطن يرزح تحت الاستعمار.
بن محمود كان يؤمن بالعمل الجمعياتي «وكيف لا وهو الذي كان شديد التاثر بأفكار الزعيم الاكبر الشيخ عبد العزيز الثعالبي، فلقد كتب نور الدين بن محمود في مجلة افكار المبتكرة في الادب والفن والاجتماع التي كان رئيسها وفي العدد الاول مقال بعنوان «جمعيات الفوضى»، لقد قال الشيخ الثعالبي:اني مغتبط بما وجدته في تونس من الجمعيات فهذا والله ابرد على قلبي وادعى للفرح» كما تحدث الاستاذ الشادلي بن يونس في مداخلته مؤكدا ان بن محمود اهتم بالسينما وكتابة السيناريو وانضم إلى عدة جمعيات منها الرياضية مثل الترجي الرياضي التونسي وجمعية النجم الرياضي بحلق الوادي وجمعيات ادبية وثقافية على غرار قدماء المدرسة الصادقية وجمعية المعهد الرشيدي للموسيقى التونسية وجمعية التفي الموسيقي ورابطة الموسيقى التونسية وجمعية الاتحاد المسرحي.
وكان بن محمود يعتبر ان المسرح مدرسة الشعب ويشجع الشباب على التاليف المسرحي وكتب مسرحية «ادريس اخر الموحدين» وعرضت بالمسرح البلدي، كما كان استباقيا في كتابته عن المجتمع وكتب نص «المتمردة» التي تناولت موضوع الزواج في علاقة بالأعراف والتقاليد وكان النص مختلفا وثوريا حسب السياق التاريخي لزمن الكتابة كما جاء في مداخلة فوزية لحاج المزي المعنونة «نور الدين بن محمود كاتبا مسرحيا في زمن فني واجتماعي مخضرم».
أحبّ وطنه، وحاربته سياسة الاستعمار والاستقلال
كتب الكثير من المقالات في مجلة الثريا، ترك المئات من المقالات في الادب والمجتمع والسياسة، كان رائدا زمن الاستعمار في مجال الاعلام، صحافة وادبا وفنا وبداعا، «عاش بحبر قلمه وتميز برجاحة عقله وتفتح فكره وطلاقة لسانه فكسب النجاح والشهرة في شبابه، ولكنه عاش مهددا ثم مغتربا زمن الاستقلال» بهذه الكلمات استهل علي الجليطي مداخلته عن البعد السياسي في حياة نور الدين بن محمود مضيفا ان السياسة بمفهومها العام سواء الاستعمارية او سياسة ما قبل الاستقلال هي بالأساس وراء ما عرفه من ضيق ومحاصرة في تونس، وما عاشه في كهولته من غربة في الخارج وما لفّه من تجاهل في شيخوخته».
بن محمود لك يكن له انتماء سياسي او حزبي واضح، لكنّ السياسة حاربته، أثناء الفترة الاستعمارية حورب لنجاحه في الإذاعة وغيرته المطلقة على الثقافة العربية والفكر والادب التونسي ونصرته للإسلام والدفاع عن القضية الفلسطينية، لمع نجمه في راديو تونس مراسلا إذاعيا نشيطا رغم سيف الرقابة وكان صوته وسيلته للدفاع عن وطنه ومفكريه ونخبته، وكتب أيضا بجرأة في «الثريا» و»الارادة» و»الاسبوع» التي وهبت نفسها لخدمة صالح هذا المجتمع بدون ميز وان تعمل جهدها لابلاغ كافة الاصوات الصارخة في وجه العدو» كما كتب بن محمود «ان كل مواطن تونسي واجه بطريقته الخاصة وامكانياته التواجد الاستعماري، فمن لم يقاوم بالبندقية قاوم بالقلم والكتابة والديبلوماسية».
ويواصل علي الجليطي تتبع مسار جريدة «الاسبوع» لكشف اسباب التضييق السياسي على بن محمود، فيتحدث عن الجريدة وكيف فتحت صفحاتها للقيادات الوطنية وعلى راسها الزعيمين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف، ولكن بعيد الاستقلال اتهمت «الاسبوع» بانحيازها لشق صالح بن يوسف.
ويتضح من مذكرات بن محمود انه تقابل مع الزعيم بورقيبة ورفع اللبس وسوء التفاهم حيث أوضح له انه على عكس ما يشاع ليس له خلاف مع الحزب بل خلافه مع بعض الأتباع، ورغم الوعد الذي تحصل عليه من الزعيم بعدم تعطيل «الاسبوع» الا انّ السلطة نفضت وعدها وبادرت بايقاف الجريدة واعتقال صاحبها» على الرغم من اني لم انضم لاية هيئة حزبية او منظمة نقابية، رات السلطة ان تلقي علي القبض وأنا نائم ببيتي لا اتوقع شرا لاني لست في العير ولا النفير» كما جاء في مذكراته، ليترك بعدها بن محمود وطنه ويهرب بعائلته وينجو بحياته الى فرنسا اين اكمل مشوار الكتابة «علّمنا في فرنسا لكنه علمنا حب هذا الوطن وطلب منا جميعا العودة الى تونس للمساهمة في النهوض بها، وبالفعل بعد اتمام دراستنا عدنا جميعنا الى وطننا، والدي كان وطنيا وعنه اخذنا حب تونس» حسب تعقيب ابنته السيدة عطف بن محمود.
نور الدين محمود تونسي احب وطنه، دافع عنه بكتاباته، اصدر العديد من الصحف وكان صوتا اذاعيا جريئا لا يخاف الاستعمار وسلطته، تونسي كتب الشعر والنص المسرحي، جزء من الذاكرة الوطنية دخل غياهب النسيان لانّ التونسي المبدع محكوم عليه بأفة النسيان في اغلب الاحيان، ويبدو ان بن محمود تنبئ بهذا النسيان فكتب في مذكراته المبتورة «أما الان فاني اجتزت الماضي بمآسيه: لماذا امعنوا في مقاومتي بكل سلاح؟ قررت بمحض الاختيار الاستقالة من منصبي بالاذاعة، وتآمروا فحرموني من دار الهدى للطباعة ومن ظهور صحفي وقوافلي، وتآمروا على حياتي، فاصبحت احيا حياة المنبوذين محروما من الحياة العائلية ومن الاجتماع بالبقية الباقية من حياتي، فماذا جنيتُ؟».