هكذا يمكن وصف تجربة «المنفى» من اخراج نادر بلعيد التي قدمت ضمن فعاليات تظاهرة «الخروج الى المسرح» و التي ينظمها قطب المسرح والفنون الركحية ومسرح الاوبرا لمدينة الثقافة.
«المنفى» المسرحية، التجربة ساعد في اخراجها اسامة غلام، عمل يجمع بين التمثيل والعرائس وهو من اداء أميمة المجادي وخلود ثابت وإسلام بن سالم وأسامة الماكني وتقني اضاءة شوقي مشاقي وموسيقى ضياء منصوري وميكساج لفراس دربال وصنع العرائس الفنان والرائد في مجاله محمد نوير.
المسرح مساحة للسؤال عن ماهية الانسان
اجساد تائهة دون هوية، اجساد تصارع الضوء وتبحث عن ذاتها وتحاول اكتشاف الفضاء، اربعة ممثلين، ومعهم بقايا دمى يعيدون تشكيلها وتحريكها ويبعثون فيها الحياة في تماه مطلق بين المحرك والعروسة، اجساد دون اسماء ولا ملامح واضحة، وجوه الشخصيات طبيعية دون ماكياج، لباس اسود يشترك به الجميع، فقط حركة الجسد وإيقاعه دليل المتفرج للدخول الى عوالم «منفى» نادر بلعيد ورفاق الفكرة والمشروع.
«المنفى» هو اسم المسرحية، ومن الاسم اخذ العمل الكثير من ابعاده النفسية والفنية، فالشخصيات تعيش في منفى تتحرك في فضاء غير معلوم، لا وجود لإشارة واحدة تحدّد هوية المكان او زمانه، يتحركون باحثين عن فضاء للخروج غير معلوم ولا موجود، اجسادهم متشابهة وأفكارهم كذلك، الاضاءة في شكل مربعات هي التي توزع حركية الشخصية وتوجه الممثل، يعيشون في منفى اجتماعي ثلاثتهم يريدون الخروج والسفر من ذاك المربع وفي كل محاولة يصدمون جملة «اسف لا يوجد باسبور» وهي الجملة الوحيدة المنطوقة خلال العمل مع الموسيقى المتماهية مع ايقاعات الشخصية وحركات الاجساد الباحثة عن مخرج، الاجساد الثلاثة يتحكم في حركتها جسد رابع، يضع مربعا على رأسه تظهر منه العينان فقط، ذاك الجسد يتحرك بتلقائية ويرقص ويسيّر بقية الاجساد وكأنها ملكه الخاص، يطوّع حركتها ورغبتها حسب ما يريد.
«المنفى» مسرحية تسلط الضوء على الكثير من المشاكل التي يعيشها الانسان في العالم خاصة تونس، ينقدون فكرة صعوبة التنقل والسفر، ينقدون واقع الانسان المسلوب الفكر والإرادة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام إذا أصبح محركوا البحث يتحكمون في الانسان وفي تحركه كما يحرك العرائسي عروسته، فيقدمون صورة كاريكاتورية بين طفل الامس وطفل اليوم، بالأمس كان يلعب بالطين والقماش ويصنع عرائسه ولعبه، منها يصنع متعته وسعادته، بينما طفل اليوم، يجلس الساعات الطويلة امام وسائل التواصل الاجتماعي، يلتقط ويلتهم كلّ ما يقدم له بحيوانيته، مشهد التهام «الفايسبوك، والانستغرام» ببشاعة وحيوانية يكشف مدى استلاب عقل الانسان امام هذه الوسائل وانعدام التمييز بين الايجابي والسلبي وانخراطه الاعمى في حملات التشويه، والثلب وكلّ ما يصارعه التونسي كبيرا وصغيرا من اخبار وإشاعات موجودة على «الفايسبوك» ومشهد الحيوانية هو الاصدق فكثير من الناس يتعاملون مع الاخبار المزيفة وينشرونها كما يتعامل «الضبع» مع «الجيفة» يلتهمها بنهم قاس.
في المسرحية ينقدون فكرة الصراع حول الجسد والحريات الشخصية من خلال مشهد اكتشاف الدمية لجسدها والفرق بين جسد الانثى والذكر وذاك الصراع المصحوب بصوت «القصف» وكانها الحرب، ينقدون ظاهرة «الحرقة» والعديد من المسائل المجتمعية والنفسية وكلها يقدمها ممثلون بارعون دون كلمات، فقط اجسادهم وتعابير الوجه وطريقة تحريك العرائس هي نصهم المفتوح للقراءة وطرح السؤال.
«المنفى» تجربة مسرحية شبابية متميزة ومختلفة، رحلة ابداعية تفكك المشهد في تونس وتجبر المتلقي حتى يكون جزءا من المسرحية، يفكك شيفراتها ويغوص في رموزها، عمل مسرحي ناقد يصل إلى المتلقي ببساطة وعمق ويدعوه لينتفض على واقعه ويغيره ويستعمل ملكاته العقلية والفكرية ويخرج من خانة التبعية للاخر.
الجسد حمّال شيفرات العمل
اجسادهم وسيلتهم لإيصال رسائل العمل، اجساد الممثلين المسكونة بطاقة تخيلية ومعرفية كانت وسيلة الممثل ليقدم منطوقه الخاص ويصحب الجمهور الى جولة ابداعية وتخيلية اساسها الاول الجسد، فالمسرحية كأنها محاولة لإعادة اكتشاف الجسد وقدراته، وسيلة ليقف الانسان امام مرآته يزيح عنه المنطوق ويترك للجسد مساحة تعبيرية مطلقة ليعيد فهم حقيقته، فكان جسد الممثل هو الحامل للمعرفة وهو وسيلة اللقاء بين المتلقي ورسائل العمل المقدّم.
فالجسد «حامل المعرفة» حسب «البير كامو» يستغله الممثلون لإبراز قدراتهم التمثيلية ومعرفتهم الحقيقية بأجسادهم ولغتها، ذاك الجسد يكون وعاء للمعرفة ووسيلة ليكتشف الجمهور الحضور الذهني والنفسي والمعرفي والجسدي للممثل، فغياب النص المنطوق وترك المساحة للجسد الصامت لينثر لغته الخاصة مسالة صعبة تكشف قدرات الممثل الرهيبة ومعرفته الكبيرة بجسده ورسائل مسرحية، فسيكولوجية الممثل وجسده في وحدتهما يشكلان في الوقت نفسه موصل الإبداع ومادته وفي «المنفى» كانت اجساد الممثلين المسرحية وزسيلة لمعرفة شيفرات العمل ومطية يغوص من خلالها المتلقي في عوالم ابداعية تنتفي فيها الكلمة ويحضر مكانها الاحساس والحركة.
«المنفى» تجربة تجمع بين قدرة الممثل على اقناع المتفرج وفي الوقت نفسه تحريك العروسة، سرعة فائقة في تغيير الحركة والإيقاع حسب ما يطلبه المشهد، قدرة على التناص مع الدمية ولا وجود لخطإ تقني وتمثيلي وحيد رغم حدوث خلل تقني وسط العرض اكمل الممثلون أداءهم الدرامي لشد انتباه المتفرج فكان العمل مشحون بطاقة تمثيلية متميزة، وقدموا تجربة مسرحية تمثيلية وعرائسية مختلفة مسكونة بالنقد والسؤال وتوجيه اصابع الاتهام الى «الانسان» الباحث عن الالم وتقييد الاخر وسلبه فكره قبالة بناء عالمه المادي القائم على استعباد «البشر» اخلاقيا واستغلالهم عبر التكنولوجيا.
فالجسد المسرحي كما يرى «باتريس بافيس» يتمثل بأسلوبين للعب، التلقائية والمراقبة المطلقة، أي بين جسد طبيعي لدى الممثل وجسد دميه يحركه المخرج، وهذا يؤكد على طاقتين، طاقة ذاتية موجودة من خلال تشكل الجسد بكامله، وطاقة أخرى ناتجة عن التدريب، وفي المنفى اضافوا الى الجسد الدمية، دمى اخرى تكون بمثابة الشخصيات لها حضورها في احداث المسرحية وتأثيرها على المتلقى وكأننا بالممثلين يقومون برحلة درامية ونفسية بين الشخصية والدمية، فتتحرك الاجساد على الركح وتملأ الفضاء المسرحي وتعطي من روحها للدمية ليكون التناص النفسي والفنّي محفزا للمتلقي ومثيرا للإعجاب.
مسرحية «المنفى» لنادر بلعيد ضمن تظاهرة «الخروج إلى المسرح»: المسرح تجريب وبحث متجدد عن آليات نقد وتعبير يكون أساسها جسد الممثل
- بقلم مفيدة خليل
- 09:49 01/10/2022
- 1689 عدد المشاهدات
يخوضون تجاربهم الإبداعية والمسرحية بهدوء وصدق، يجرّبون، يلعبون، ينقدون ذواتهم، يخطئون ويصلحون أخطاءهم، يؤمنون بأن المسرح مساحة للعب وللتجديد وتقديم المختلف